خشية الصحابة والتابعين رضي الله عنهم من الله وكيف تأثر الناس بها

تعد الخشية من الله من أعلى مقامات الدين وصفة من صفات طلاب العلم المتقين بل إنها شرط من شروط الإيمان قال تعالى: ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (1)

والخشية من الله وكما يقال هي رأس العلم  “قال القاضي: ولعمري إن خشية الله تعالى وتقواه رأس العلم. وإنما يكتسب العلم ليؤدي إلى خشية الله تعالى ومراقبته، والسعي إلى ما يعود بثوابه والأمن من عقابه” (2).

ولذا فإن الصحابة والتابعين  (رضي الله عنهم) المرتحلين للدعوة كانوا يحثون الدعاة على الخشية من الله وتحري الإخلاص في طلب العلم، ويحذرونهم من أن تكون بغيتهم طلب عرض زائل قال مكحول الدمشقي  (رضي الله عنه) : “من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقا إليه وطمعا فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه” (3).

ومن المواقف العملية لدعاة الرحلات والبعوث الدعوية في تعليم طلابهم الخشية من الله ما كان من ابن عباس ــــ رضي الله عنهما ــــ مع اثنين من طلابه وهما وهب بن منبه ومولاه عكرمة قال وهب (رضي الله عنه) : ” أقبلت مع عكرمة أقود ابن عباس ـــ رضي الله عنهما ــ بعدما ذهب بصره حتى دخل المسجد الحرام فإذا قوم يمترون في حلقة لهم عند باب بني شيبة فقال : أمل بي إلى حلقة المراء فانطلقت به حتى أتاهم فسلم عليهم فأرادوه على الجلوس فأبى عليهم وقال : انتسبوا إلي أعرفكم فانتسبوا إليه فقال : أما علمتم أن لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم إنهم لهم الفصحاء النطقاء النبلاء العلماء بأيام الله غير أنهم إذا ذكروا عظمة الله طاشت عقولهم من ذلك وانكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم حتى إذا استقاموا من ذلك سارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية فأين أنتم منهم ثم تولى عنهم فلم ير بعد ذلك رجلان” (4).

ومن المواقف العملية المؤثرة التي وقف عليها طلاب علم الصحابة والتابعين  (رضي الله عنهم)المرتحلين للدعوة  ما كان من بكائهم خوفاً من الله وكان ذلك أحد المواقف العملية التعليمية للدعاة فمما جاء في ذلك ما كان من بكاء مبعوث رسول الله ﷺ إلى اليمن والمرتحل إلى الشام وفقيهها معاذ بن جبل (رضي الله عنه) عندما بكى بكاءً شديداً فقيل له ما يبكيك ؟ قال: لأن الله عز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون.

ومن المواقف العملية المؤثرة بكاء فقيه أهل البصرة الصحابي الجليل حذيفة (رضي الله عنه) بكاءً شديداً، فقيل له : ما بكاؤك ؟ فقال : “لا أدري على ما أقدم، أعلى رضا أم على سخط؟” (5).

وقال سعد بن الأخرم: “كنت أمشي مع ابن مسعود (رضي الله عنه) فمَّر بالحدَّادين و قد أخرجوا حديداً من النار فقام ينظر إلى الحديد المذاب ويبكي” (6).

وعن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع عن شداد بن أوس “أنه خرج معه يوما إلى السوق ثم انصرف فاضجع وتسجى بثوبه ثم بكى فأكثر ما قال: أنا الغريب لا يبعد الإسلام  فلما ذهب ذلك عنه، قلت له : لقد صنعت اليوم شيئا ما رأيتك تصنعه، قال: أخاف عليكم الشرك والشهوة الخفية، قلت له: أبعد الإسلام تخاف علينا الشرك، قال: ثكلتك أمك يا محمود، أو ما من شرك إلا أن تجعل مع الله إلها آخر” (7).

وخطب أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه) مرة الناس بالبصرة : “أيها الناس، ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أجري فيها السفن لسارت” (8).

وعن مبارك بن فضالة ــــ رحمه الله ــــ قال:” سمعت الحسن (البصري) (رضي الله عنه) يقول: فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحا” (9)

عن أبي رجاء العطاردي ــــ رحمه الله ــــ  قال : ” كان هذا المكان من ابن عباس (رضي الله عنه) مثل الشراك  البالي من الدموع” (10).


[1]  سورة التوبة، آية: 15.

[2]  الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي للنهرواني، حققه : عبدالكريم الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1426هـ ، ص 516.

[3] احياء علوم الدين للغزالي ، 1/68، ومكحول ولد بكابل ورحل للشام واستقر  بها انظر : تاريخ دمشق لابن عساكر 60/201 .

[4]  الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، 12/283

[5]  انظر: الزهر الفائح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح، لشمس الدين أبي الخير ابن الجزري، حققه: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406 هـ، ص21.

[6]  التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الأولى، 1399هـ، ص42.

[7]  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، 1/270. ومما يدل على أن هذا كان في رحلة شداد

الدعوية للشام أن الراوي رجاء بن حيوة شامي فلسطيني ، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي4/558.

[8]  طبقات ابن سعد، 4/110.

[9]  حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني ، 2/149، ومما يدل على أن هذا كان في رحلة الحسن للبصرة أن الراوي مبارك بن فضالة من كبار علماء البصرة انظر : سير أعلام النبلاء للذهبي7/281.

[10]  الزهد لأبي داود السجستاني، حققه: ياسر أبو تميم وغنيم أبو بلال،  دار المشكاة للنشر والتوزيع، حلوان، الطبعة الأولى، 1414 هـ ،1/ 327.