تفقيه الصحابة والتابعين رضي الله عنهم المرتحلين للدعوة للناس في أمور دينهم
تبصرة المدعوين بأمور دينهم كان أحد ثمرات رحلات وبعوث الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) الدعوية، فالمدعو يعد أحد الأركان المهمة من أركان الدعوة إلى الله تعالى بل إنه الهدف الذي لم تكن هذه الرحلات والبعوث الدعوية إلا لأداء واجب ما افترضه الله من دعوته، وقد أدى الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) المرتحلون والمبعوثون للدعوة ما للمدعوين من حقوق، فقد كانوا محط رحالهم بعد أن هجروا ديارهم وتركوا أبناءهم وأموالهم رغبة فيما أعده الله لهم، وهم بهذا قد وافقوا واقتفوا سنة نبيهم ﷺ الذي كان يغشى الناس ويرحل إليهم في موسم الحج وغيره، وقد كان الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) المرتحلون للدعوة يظهرون الحرص على هدايتهم في جميع الأحوال ويتلطفون بهم رغبة في هدايتهم ورحمة بهم وخوفاً عليهم من النار، ومع ما كانوا يظهرونه من تودد وتلطف إلا إنهم كانوا أقوياء أشداء في إحقاق الحق وإبطال الباطل لا يداهنون ولا يمارون ولا يدافعون عن الظالمين (1). وكان الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) المرتحلون والمبعوثون للدعوة يختارون في أداء مهمتهم هذه أنسب الوسائل والأساليب الدعوية (2) التي تعينهم على إيصال رسالتهم الدعوية والتي كانت تتناسب مع كل صنف من أصناف المدعوين (3) الذين تعددت مستوياتهم وصفاتهم ومشاربهم ومللهم وأقاليمهم المتنوعة، فكانوا يأتون لكل صنف بما يناسبه فالذي يناسب مجوس الفرس قد لا يتناسب مع نصارى الشام والذي يناسب مشركي العرب قد لا يتناسب مع غيرهم، والذي يناسب العامة قد لا يتناسب مع الزعماء والقادة وهكذا، إلا إنه ومع ذلك لم تسثن رحلاتهم الدعوية إقليما دون أخر أو جنسا دون جنس أو طبقة دون طبقة أو فئة دون أخرى بل إن دعوتهم كانت عامة فهم رسل رسول الله ﷺ الذي قال الله في شأنه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (4).
وقال تعالى : ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (5).
وقد كانت تنشئة المدعوين على صحيح المعتقد من أولى ما اهتم به المرتحلون للدعوة من الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) (6) . فقد كانوا يتعاهدونهم بالنصح والتعليم والإرشاد، وكان الدعاة يجدون من هؤلاء المدعوين الاستجابة نظراً لمكانتهم ومنزلتهم التي أنزلهم الله إياها فقد رأوا من دعاة الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) المرتحلين والمبعوثين للدعوة أمثلة حية يحتذى بهم في كل خير فقد كانوا يتميزون بسمات جعلت منهم العلماء والقادة والعباد والزهاد والمجاهدين وبهذا وجبت لهم الخيرية التي وصفهم الرسول ﷺ بها (7)، وقد تم الإشارة لكثير من الممارسات التعليمية والتطبيقات العملية في ثنايا هذه الدراسة، والتي كان هدفها تفقيه المدعوين وتبصيرهم بأمور دينهم، فلم تكل جهودهم ولم تفتر عزائمهم عن تخلصيهم من ركام المعتقدات الفاسدة التي كانت تتخذ من دون الله آلهة شتى وتعتمد على البغي والظلم في تحصيل مرادها وتلبية احتياجاتها .
وقد كانت ثمرة هذه الجهود الذي بذلها الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) المرتحلون والمبعوثون للدعوة وبالرغم من الأحداث العظام والفتن والنوازل التي عصفت بالأمة في تلك الفترة أن الله وفقهم في إيجاد مجتمع عارف متبصر في أمور دينه، وكتب السير والتراجم والطبقات والتاريخ حافلة بسير العباد والزهاد الذين كانوا نتاج هذه الرحلات الدعوية المباركة، فلقد باع التابعي الجليل الحسن البصري (رضي الله عنهم) أحد المرتحلين للدعوة جاريته لقوم فلما كان في جوف الليل قامت الجارية فقالت: يا أهل الدار الصلاة الصلاة، فقالوا أصبحنا أطلع الفجر؟ فقالت: وما تصلون إلا المكتوبة قالوا نعم فرجعت إلى الحسن فقالت يا مولاي بعتني من قوم لا يصلون إلا المكتوبة !! ردني فردها (8).
وكان عامر بن عبد قيس التابعي العابد الزاهد الذي قال عنه كعب الأحبار عندما رآه: هذا راهب هذه الأمة كان يقول : من أقرئ؟ فيأتيه ناس، فيقرئهم القرآن ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي إلى العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين ثم ينصرف إلى منزله، فيأكل رغيفا، وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر رغيفا ويخرج (9).
[1] انظر: حرص الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) المرتحلين للدعوة على هداية الناس في ص 121 من هذه الدارسة ، ومنهجهم المتعلق بالمدعو ص 289، ومنهجهم المتعلق بموضوع الشريعة ص 316.
[2] انظر: منهج الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) المتعلق بالوسائل والأساليب الدعوية في ص 377 من هذه الدراسة.
[3] انظر: مراعاتهم لأحوال المدعوين في ص 272 من هذه الدراسة.
[4] سورة سبأ، آية: 28
[5] سورة الأعراف، آية: 158.
[6] انظر: منهج الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم)المرتحلين للدعوة المتعلق بموضوع العقيدة في ص 302 من هذه الدراسة.
[7] انظر: قوة إيمان الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) وعظيم يقينهم في ص 221 من هذه الدراسة وصبرهم وحلمهم ص 228 والقدوة الحسنة ص 238.
[8] انظر: إحياء علوم الدين للغزالي 1/355 .
[9] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، 4/17.