تبوء الصحابة والتابعين رضي الله عنهم المرتحلين والمبعوثين للدعوة المكانة المرموقة في العلم والدين
للصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) منزلة عالية رفيعة اختصهم الله بها، فقد جعلهم رسول الله ﷺ من خير أمته فعن عمران بن حصين ـــ رضي الله عنهما ـــ قال: قال ﷺ: ((خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ .. )) (1)
قال الطيبي ــــ رحمه الله ــــ : “يعني الصحابة ثم التابعين” (2).
هذه المكانة (3). التي تفضل الله بهم عليها كانت ثمرة من الثمرات التي نالها دعاة الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) المرتحلين والمبعوثين للدعوة فكان أن جعلهم الله سادة وعلماء الكل يطلبهم ويرغب بالتقرب إلى الله في إجلالهم، وخدمتهم، وتكريمهم، وتوقيرهم، وتعظيمهم؛ فحبهم “دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان” (4).
“ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منّ الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى” (5).
قال الطحاوي ــــ رحمه الله ــــ : “علماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل” (6).
لقد “فطر الله ـــ تبارك وتعالى ـــ الناس على مراتب ومواهب متنوعة، وأودع في بعضهم من القدرات والمزايا ما جعلهم بها قادة للآخرين وقدوات، فصنع الله تعالي بهم أحداث الزمان، وجعل كلامهم وفعالهم من التأثير بمكان… فلله درهم، فكم بذلوا من أوقات، وأنفقوا من أموال وقدّموا من جهود، وضحوا بآمالهم، وكتموا آلامهم، وجاهدوا إبليس وحزبه الملاعين، وصاروا من جند الله تعالى العاملين… فكافأهم الله تعالى أعظم المكافأة، وجعلهم للناس قادات وسادة، فاقتفيت آثارهم، وسجلت أعمالهم، ولُحظت حركاتهم، وسطرت تواريخهم، ورغب الناس في شمائلهم” (7).
لقد كان الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) المرتحلون للدعوة محل حفاوة وتكريم صلحاء من ارتحلوا إليهم بل كان هناك من يغبطهم على ما نالوه من فضل، فهذا أحد المرتحلين للدعوة من الصحابة (رضي الله عنهم) وهو الصحابي الجليل المقداد بن الأسود (رضي الله عنه) يأتي من يغبطه على ذلك الفضل فعن عبد الرحمن بن نفير عن أبيه قال: “جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما ، فمر به رجل فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله ﷺ والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت” وبالرغم من أن ما قاله هذا الرجل ما هو إلا من قبيل الحفاوة والتكريم بالمقداد (رضي الله عنه) إلا أن هذا الصحابي الجليل لم يدع ذلك من موعظة بليغة تدل على فقهه وسعة علمه (رضي الله عنه) حتى أن الراوي قال :”فاستمعت فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا ، ثم أقبل عليه ( أي المقداد (رضي الله عنه)) فقال : ” ما يحمل أحدكم على أن يتمنى محضرا غيبه الله عز وجل عنه ، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه ، والله لقد حضر رسول الله ﷺ أقوام كبهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم الله عز وجل لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم عليه السلام، وقد كفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بعث النبي ﷺ على أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده ، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافرا، وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار ، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ (8).
لقد كان من أثر هذه المكانة المرموقة التي تبوأها الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) المرتحلون والمبعوثون للدعوة أنها جعلت منهم قادة خير يقتدي بهم في العلم والدين، فكانوا محط أنظار طلاب العلم يرتحلون إليهم من كل مكان، وكانوا يرافقونهم ويأخذون عنهم حتى أن هذا الاقتداء تسلسل فيمن كان من بعدهم فعن الحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي ــــ رحمه الله ــــ قال : “لم يكن أحد من الصحابة أشبه هديا وسمتا ودلا من ابن مسعود بالنبي ﷺ وكان أشبه الناس به علقمة ، وكان أشبه الناس بعلقمة إبراهيم ، وكان أشبههم بإبراهيم منصور بن المعتمر ، وأشبه الناس به سفيان الثوري ، وأشبه الناس به وكيع ، وأشبه الناس بوكيع فيما قاله محمد ابن يونس الجمال أحمد بن حنبل” (9).
“لقد منّ الله تعالى على الأمة الإسلامية العظيمة الخيار الوسط بأعظم رسول ﷺ وقفى على أثره بجملة وافرة من القدوات العظام من الصحابة الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين هذا لم يكن للأمم الأخرى عشر معشارهم ولا بعض أعمالهم آثارهم، أنار الله تعالى بهم الدنيا، وقشع بهم الظلام، وجعلهم قدوة لجميع الأنام” (10).
[1] أخرجه الإمام البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبي ﷺ، ح 3450، 3/1334.
[2] شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى، حققه: عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1417 ه، 12/3843.
[3] لمعرفة هذه المكانة انظر: ما جاء في هذه الدراسة من ص 260 – 265.
[4] العقدية الطحاوية، لأبي جعفر الطحاوي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1416هـ، ص 29.
[5] مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/156 .
[6] العقدية الطحاوية، ص 30 .
[7] القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار، محمد الشريف، دار الأندلس الخضراء، جـــــدة، الطبعة الأولى، 1423هـ، ص 11.
[8] انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني 1/175، والآية من سورة الفرقان، آية: 74 ، ويدل على أن هذا كان في رحلة دعوية ما جاء من أن المقداد (رضي الله عنه)كان في حمص انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي1/389. كما أن الراوي وهو جبير بن نفير قال عنه الذهبي في سيره (4/78) : ” وكان هو وكثير بن مرة من أئمة التابعين بحمص وبدمشق ” .
[9] سير أعلام النبلاء للذهبي، 11/317.
[10] القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار، محمد الشريف، ص 13.