تاريخ الرحلة
تُعَد الرحلة قديمةً قدم الإنسان نفسه، فالإنسان جبل على حب التنقل والأسفار لأسباب عـدة، وقــــــد أبـــاح الله ــ سبحانـــــــه وتعالى ــ لــــــه المشــي في مناكــــــب الأرض . قــــــــال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (1).
قال الشنقيطي ـــــــ رحمه الله ـــــــ: “فيه امتنانٌ من الله تعالى على خَلقه، مما يُشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيهاً وحثاً للأمة على السعي والعملِ والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب; لتسخيرِها وتذليلها، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها” (2).
كما أن الله جلَّ في علاه سخر للإنسان وسائل شتى لتقله، وتَحمل أثقاله في حله وترحاله قــــــــــال تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (3)، وقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ (4).
الرحلة طريقة بني البشر في تلبية الكثيرِ من الدوافع والحاجات، وقد ورد ذكرها في جميع الحضارات التاريخية; لكونها إحدى سبل التواصل التي يحتاجها الإنســـان في جميــع شؤونه الحياتية (5).
ولاتزال الرحلة تعد من أنجح وسائل بني البشر في التزود بالعلم والمعرفة، فقد كانت أحد مصادر المعلومات التي ساعدت على اكتشاف الكثير من البيئات والتعرف على أوجه النشاطات الإنسانية (6).
لذا فالرحلة معروفة لدى جميع الأمم لارتباطها بأوجه الأنشطة الإنسانية المختلفة، ولم تفقد الرحلة مهامها المتعددة إلى الآن وما زالت تتطلع إلى ما لا يُعرف من اكتشافات (7).
ويمكن القول إن تاريخ الرحلة بدأ مع تاريخ الإنسان نفسه، ربما بقصد البحث عن مصادر الرزق الذي تسبب في حركة البشر وهجراتهم في العصور القديمة من تاريخ الإنسانية (8).
وفيما يلي سيتم ــــ بتوفيق الله ــــ توضيح تاريخ الرحلة عند العرب قبل الإسلام وبعده.
* * *
الفرع الأول
-
تاريخ الرحلة عند العرب قبل الإسلام
تُعد الرحلة إحدى الروافد المهمة في كل الحضارات العالمية, وما يَعنينا في ذلك أنه كانت للعرب كغيرهم رحلات وجدت بعضها موصوفة بأشعارهم، وبخاصة الشعر الجاهلي، وقد تضمنت بعض المعلومات والمشاعر التي كانت تختلج قلوبهم عند توقفِهم في بعض المشاهد.
“وعندما يكون الحديث عن الارتحال في الشعر الجاهلي فإن ذلك يدل على الحديث عن عموم الحياة الجاهلية، إذ إنَّ مبدأَ الارتحال كان هو الدعامة التي تقوم عليها الحياة الجاهلية، ولا أدل على ذلك من الشعر الجاهليِ نفسه، فقد كان ذا هيكلٍ لا يخرج عن محيط الارتحال، وذا مضمون يعبر كذلك عن قوة الارتباط بين المجتمع الجاهلي والارتحال” (9).
ومما يؤكد عمق العلاقة بين الارتحال والشعر في العصر الجاهلي وجود طائفة كبيرة من القصائد التي تـتداول وتشتمل على معنى الارتحال توشك أن تذهب بحظ عظيم منه، وتتعدد في هذه القصائد الأغراض تعدد ألوان الحياة الجاهلية (10) ، وبالنظر إلى دوافع وأغراض الرحلة عند عرب الجاهلية نجد أنها خاصة على مستوى الأفراد وعامة على مستوى الجماعة وسيتم تناول كل منها على حده :
-
دوافع وأغراض الرحلة عند عرب الجاهلية على المستوى الخاص:
لقد تعددت دوافع وأغراض الرحلة عند عرب الجاهلية، على المستوى الخاص فرحلة الحج تأتي في مقدمة هذه الدوافع، وكانت قريش، ومن دان بدينها تعظم بيت الله الحرام وتحج إليه.
وأما الرحلات التجارية فمن أهمها رحلتا الشتاء والصيف، وقد أكد أهميــة هاتين الرحلتين ورودهما في قوله تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ (11).
وكانت للعرب أسواقٌ يرتحلون إليها من كل حدب وصوب، وكانت لها مواعيد محددة وأماكن معروفة (12)، ومن هذه الأسواق سوق عكاظ ويعد أشهر هذه الأسواق حيث اجتمع فيه مالم يجتمع في غيره فقد كان الناس يضربون إليه أكباد الإبل من كل أرجاء الجزيرة العربية شمالها وجنوبها وشرقها وغربها ويشاركونهم فيه بلدان أخرى كفارس (13).
ولم يكن غرض هولاء المرتحلين لهذا السوق مقتصرا على البيع والشراء والتخاصم والتفاخر وإعلان الحرب والسلم (14). بل كان مقصداً من مقاصد الرحلات الدعوية فمن ما جاء في ذلك ماكان من قس بن ساعدة الإيادي الذي قام خطيباً في سوق عكاظ على جمل أحمر وكان مما قاله في وعظه:” يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات وكل شيء آت آت ليل داج وسماء ذات أبراج وبحر عجاج نجوم تزهر وجبال مرسية وأنهار مجرية إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ أقسم بالله قسما لا ريب فيه إن لله دينا هو أرضى من دينكم…” (15). وقد كان في جملة من حضر هذه الدعوة رسول الله ﷺ وهو غلام حدث (16). ولم تكن عكاظ السوق الوحيدة التي يُرتحل إليها بل كان غيرها الكثير كسوق مجنة، وذي المجاز، ودومة الجندل في شمال نجد وسوق خيبر، وسوق الحيرة، وسوق الحجر باليمامة، وسوق صحار بعمان، وسوق المشقر بهجر، وسوق الشحر، وسوق حضرموت، وسوق صنعاء وعدن، ونجران، وغيرها من أسواق العرب (17). ومن دوافع وأغراض الرحلة عند عرب الجاهلية، على المستوى الخاص رحلات التكسب بالشعر فقد كانت مهنة ثابتة لبعض الشعراء ومنهم الأعشى الذي قال عنه ابن رشيق القيرواني ــ رحمه الله ــ “..فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجراً يتجر به نحو البلدان” (18).
ومن هذه الرحلات رحلات الإبعاد أو النفي عن القبيلة لتجنب تبعة ماقد يكون من الجرائر التي يرتكبها أصحابها أو لترويض الخارجين عن القيم المتعارف عليها (19).
ومن دوافع الارتحال الفرار خوفاً من القتل أو الانتقام ومن ذلك ماجاء في خبر النابغة الذبياني بعد أن هجا النعمان بن المنذر ملك الحيرة فهدر النعمان دم النابغة (20).
-
دوافع وأغراض الرحلة عند عرب الجاهلية على المستوى العام:
من دوافع وأغراض الرحلة عند عرب الجاهلية على المستوى العام الرحلات السفارية أو الدبلوماسية، وكانت تسمى السِفارة، وكان صاحبها يسمى: السفير، والرسول، والمبعوث. “وقد اختص عدد من العرب بالقيام بمهمة الرسل وعدوها صناعة لهم، ومن المعروف أن آخر سفراء قريش في الجاهلية كان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قبل أن يسلم، وكانت تلك السفارة في قبيلته (بنى عدى)؛ وقد يختص بعضهم بدولة معينة لمعرفته بلغة القوم وأحوالهم” (21) ، ومن الرحلات العامة الرحلات الحربية فقد كان أساس الصلات القبلية مبنياً على العداء والحروب المتوالية، ويُعد الاختلاف على الماء والمرعى بسبب الجفاف وقلة الموارد من أعظم دوافع الحروب القبلية كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها (22).
وقد تكون هذه الحروب بدافع السلب والغارة فقد جعلوا أرزاقهم في رماحهم قال القطامي ذاكراً حرب آبائه التغلبيين مع بني عمومته وهو يصور حالتهم هذه :
وكــــــنّ إذا أغــــــــــرن على جـنـاب وأعوزهن نهب حيث كانا
أغرن من الضباب على حلول وضبـــة إنه من حــان حانا
وأحــــيــــانــاً على بــــــــــكر أخــيــنـــا إذا ما لم نجـــــــــــــــد إلا أخانا (23)
كما أن الاستيلاء على الغنائم والأسرى كان هدفا من أهداف الرحلات الحربية، قال أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على غزوهم : ” البسوا جـلـود النمر ، والثبات أفضل من القوة ، أهنأ الظفر كثرة الأسرى ، وخير الغنيمة المال” (24). ومن الرحلات التي يكون الدافع فيها عاماً، رحلات البحث عن الكلأ؛ بسبب الجدب، والرحلات بقصد التوسع إلى غير ذلك من الدوافع والأغراض المشهورة، وهكذا نجد أن تاريخ الرحلة عند العرب قبل الإسلام كان مليئاً بمظاهر العداء والخوف ، والسفك والنهب، والتفاخر والتناحر إلا فيما ندر .
* * *
الفرع الثاني
-
تاريخ الرحلة في الإسلام
استمرت الرحلات على المنوال السابق إلى أن أتى الإسلام فغير المفهوم العام لمعنى الرحلة حيث توسعت الرحلات، ووضعت لها أسس، وأهداف، وشروط، وآداب مستمدة من مبادئ الإسلام، فتغيرت بذلك توجهات العصور البائدة؛ لتتناسب الرحلات مع عدل الإسلام، وسماحته. فعلى سبيل المثال لابد عند العزم على الرحلة من رد المظالم، وقضاء الدين، وإعداد النفقة لمن تلزمه نفقته، وما إلى ذلك من آداب وشروط بينها العلماء، والفقهاء في مؤلفاتهم وأسفارهم (25) .
“ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد ﷺ ونادت به سورة الإسراء وقصة المعراج في لغةٍ صريحةٍ بليغةٍ، وفي أسلوب مبين مشرق، وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب! نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته، ومن الحياة القبلية المحدودة التي ضاقوا بها إلى الإنسانية الواسعة التي يشرفون عليها ويوجهونها (26) .
” ولأن الإسلام دينٌ حضاري متنور، ودوله منفتحة ومتفتحة، ولأن التحضر والتفتح يكفل التقدم، ويؤمن حركة الحياة ويدعمها، ويبشر بحياة أفضل؛ فلقد أمسك المسلمون بزمام الرحلة وتحمسوا لها. بل والتهب نشاط الرحلة الإسلامية، في إطار اهتمام رشيد مطمئن، وتحولات تبشر بحياة، وحصاد وفير. ونالت الرحلة الإسلامية حقها الكامل في الاهتمام والأمان من ناحية، واستحقاقها الفعال من قوة الدفع والحوافز على الطريق في البر والبحر من ناحية أخرى، وواصل نفر نشيط من المسلمين، أصحاب الخبرة في الرحلة أداء دورهم الوظيفي، وكان الخروج في الرحلة لإنجاز
المهام المنوطة بهم، في كل رحلة في البر، أو في البحر على حد سواء” (27).
وسنرى كيف كان تأثير الإسلام على الرحلات الخاصة منها والعامة:
-
الرحلات الخاصة:
بدَّل الإسلام في رحلات الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام الخمسة وغير؛ حيث أرجع المناسك إلى ما كانت عليه يوم رفع إبراهيم عليه السلام وابنه القواعد من البيت قال الله له: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (28)، فالغاية سامية، والرحلة خالصة لله وحده لا شريك له .
كما أن الإسلام غير مفهوم الرحلات التجارية التي كانت تقتصر على مجرد الاستزادة والكسب كيفما كان الأمر وبأي طريق كان. فجعل للرحلات التجارية غاياتٍ سامية، فالصدق، والأمانة، وتحري الخير، كانت رسائلَ دعويةً مارسها التجار المسلمون فدخل الناس بذلك في دين الله طائعين راغبين .
وأما الأسواق في الإسلام فلم ” يعد ــ وقد تحضر العرب ــ من حاجة إلى مواسم وأسواق على ما كان عليه الحال في الجاهلية، لأن العرب سكنت المدن الكبار من بلاد الشام والعراق ومصر وفارس والروم، ومصرت هي لأنفسها أمصاراً عظم شأنها مع الزمن كالكوفة والبضرة وبغداد والقيروان..فصارت تستغني كل مدينة بأسواقها الدائمة عن أسواق المواسم، وكفى الله العرب مؤونة الترحال بين أسواق الجزيرة” (29).
واتسع نطاق التجارة عند المسلمين اتساعاً لم يبلغه عند شعب آخر؛ فانتشرت قوافل تجارة المسلمين في القسم الأعظم من العالم المعروف في ذلك العهد، وخاضت سفنهم عباب البحار والمحيطات، وازدهرت على أيديهم الطرق التجارية بين بحر الصين، وآسيا الوسطى، وسواحـــل بحر البلطيق والأندلس، وشواطئ المحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط، وساحل أفريقيا الشرقي، وجزر المحيط الهندي، وصحارى السودان، وكان التجار يحملون السلع حينئذ، ويقومون بالرحالات الطويلة في هذا السبيل (30).
-
الرحلات العامة:
خلص الإسلام الرحلات العامة مثل الرحلات الحربية من غرائز الشر والعدوان ، والإثم والبغي، ووضع لها تصوراً قويماً ورسم لها إطاراً كريماً، فذكر الباعث لها، وحدد لها أخلاقيات وجعلها محاطة بعدد من الضوابط والقيم، فالرحلة الحربية سماها الإسلام جهاداً وفي هذا قال محمد أبو زهرة ــ رحمه الله ــ :” تسمية الحرب جهاداً فيه إيماء إلى أنها ليست حرب قتل وغلب، ولكنها دعوة للحق، وحماية له من أن يعتدى عليه، وفتح الطريق ليصل إلى النفوس وإزالة الحواجز المانعة، ولذلك كان على القائد الذي يقود جيش الإسلام إلى الجهاد، أن يدعو إلى الإسلام فإن أسلم من يدعوهم، فهم إخوان مسلمون علينا حمايتهم ولهم إخوتنا، وإن لم يسلموا عرض عليهم العهد على أساس إقامة الحق.. (31).
أما رحلة السِّفارة في الإسلام فقد كانت أداة من أدوات نشر الإسلام وتبليغه وتكونت للسفير الرَّحَّالة منزلة مهمة حيث إن دوره أصبح لا يقتصر على مسؤولية نقل التعليمات وإبلاغها، بل قد يكون الممثل لجميع المسلمين والمتكلم بلسانهم وله بعض الحقوق التي أضافها الإسلام له. وبهذا أضاف الإسلام للسفارة والسفير رؤيةً جديدةً لم يكن العالم على علم بها.
وهكذا في بقية الرحلات الأخرى التي خلصها الإسلام من جميع ما قد يلحق بها من الأضرار أو الآثام التي تعود على الأنفس أو المجتمعات، وجعل لها أسساً وأهدافاً دعوية، كما أن الإسلام استحدث بعض الرحلات التي لم تكن موجودة من قبل، كرحلات التفكر والاستبصار، والتذكر والاعتبار في ما حل بالأمم السابقة من العذاب؛ بسبب عدم استجابتهم لدعوات رسلهم، وكذلك الرحلة فراراً بالدين ابتغاء رضا الله الذي وعد من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته أنه يجد مراغماً في الأرض وسعة، فالمراغم مشتملة على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا.
“وقد أولى الدين الإسلامي الحنيف نشر العلم عنايةً خاصة فحضّ على طلبه ونشره إذ روي الكثير من الأحاديث الشريفة عن النبي ﷺ تدعو إلى ذلك وتهون الأمر على الساعي وتحمله المشاق بالأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، وأنه يثبت طالب العلم على مسعاه” (32) .
والرحلة في طلب الحديث بدأت منذ عصر النبوة، وكتاب الرحلة في طلب الحديث وثيقة هامة تثبت ذلك بما أخرج فيه الخطيب البغدادي من الأحاديث الصحيحة في ذلك… الأمر الذي يدل على الأهمية البالغة للرحلة في طلب العلم عامة، وطلب الحديث خاصة (33).
وقد ثبت أن الرحلة في طلب الحديث الواحد وجد في عصر صدر الخلافة الراشدة وقبل عصر الأمويين بزمن بعيد فكيف بطلب مجموعات من الأحاديث (34).
وأما الرحلات الدعوية موضوع هذه الدراسة فقد وجد الدعاة مجالاً رحباً في التنقل بين بلدان المسلمين الواسعة الفسيحة، وستتجلى في ثنايا هذه الدراسة ــ بإذن الله تعالى ــ الصور الناصعة لرحلات الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) الدعوية والتي أنار الله بها بصائر العباد وخلصهم بعبوديته وحده مما كانوا فيه .
“وهكذا نالت الرحلة الإسلامية حقها الكامل من الاهتمام والأمان من ناحية، واستحقاقها الفعال من قوة الدفع والحوافز على الطريق في البر والبحر من ناحية أخرى، وواصل نفر نشيط من المسلمين أصحاب الخبرة في الرحلة أداء دورهم لإنجاز المهام المنوطة بهم (35).
وبناء على ما سبق يمكن القول بأن الرحلات تطورت بتطور الإنسان حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، حيث توسعت سبلها، وتعددت أهدافها وكثرت وسائلها فغدت اليوم ـــــ بحمد الله ــــ سهلة يسيرة. ولا تكاد البشرية تستغني عنها فالسماء مليئة بالرحلات الجوية، والمحيطات والبحار تعج
بالرحلات البحرية، وأما الرحلات البرية فلا تكاد تخلو البسيطة من جميع صورها وتنوع أشكالها (36) .
[1] ــــــ سورة الملك، آية : 15.
[2] ــــــ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر، د ط،1415هـ، 8/238.
[3] ــــــ سورة النحل، الآيات : 5 ـــــــ 8 .
[4] ــــــ سورة غافر، آية : 80.
[5] ــــــ انظر : أدب الرحلة في التراث العربي، فؤاد قنديل، الدار العربية للكتاب، القاهرة، الطبعة الثالثة،2002م، ص18.
[6] ــــــ انظر : الرحلات التأسيسية، قاسم عبده قاسم، كتاب ربع سنوي يصدر عن مجلة العربي، وزارة الإعلام بدولة الكويت، العدد 59 – 2001م، ص1.
[7] ــــــ انظر: فن الرحلة في الأدب المغربي القديمة، إسماعيل زردومي، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه، جامعة الحاج الأخضر، الجزائر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية وآدابها، 1426هـ، ص 1.
[8] ــــــ انظر: الرحلات التأسيسية، قاسم عبده قاسم، ص 1.
[9] ــــــ الارتحال في الشعر الجاهلي، وفاء بنت سليمان العليان، بحث مقدم لنيل درجة الماجستير في الآداب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الملك عبد العزيز بجدة 1432هـ، ص22.
[10] ــــــ انظر: الرحلة في القصيدة العربية، وهب رومية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1982م، ص 9.
[11] ــــــ سورة قريش، الآيــــــــــــة : 1-2.
[12] ــــــ انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، دار العلم للملايين ، مكتبة النهضة، بغداد، ط2، 1976م، 6/350.
[13] ــــــ انظر: سوق عكاظ في الجاهلية والإسلام ، ناصر بن سعد الرشيد، دار الأنصار ، القاهرة، الطبعة الأولى، 1397هـ،ص48
[14] ــــــ انظر: اسواق العرب في الجاهلية والإسلام، سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1394هـ، ص 285.
[15] ــــــ انظر: البداية والنهاية لابن كثير، 2/230
[16] ــــــ المرجع السابق ، 2/230
[17] ــــــ انظر: الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1/198 ، وتاريخ اليعوقبي 1/105، واسواق العرب في الجاهلية والإسلام، سعيد الأفغاني، ص 231.
[18] ــــــ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني ، ، حققه: محمد عبدالحميد، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الثانية، 1374هـ ، 1/23.
[19] ــــــ انظر: الانتماء في الشعر الجاهلي، فاروق أحمد سليم، اتحاد الكتاب العرب، سورية د ط، 1998م ، ص 218 .
[20] ــــــ انظر: الشعر والشعراء ، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، دار الحديث، القاهرة ، د ط ، 1423 هـ ، 1/99.
[21] ــــــ السفارة والسفراء في الإسلام، عثمان جمعة ضميرية، رابطة العالم الإسلامي، سلسلة دعوة الحق، العدد 191، 1/3/1432هـ، ص54.
[22] ــــــ انظر: شرح ديوان الحماسة للتبريزي، دار القلم ، بيروت، د ط ، د ت ، 1/129 ، قال التبريزي في شرحه لمعنى البيت: وكن أي: أرباب الخيل، وأعوزهن أَي: وتعسر عليهم النهب والغنيمة عطفوا على الأقارب ( 1/129 -130).
[23] ــــــ انظر: العقد الفريد لابن عبدالربه الأندلسي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ ، 5/201.
[24] ــــــ انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير، حققه: عمر تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ، 1/258 .
[25] ــــــ انظر: مثلاً ما أورده الإمام الغزالي في ذلك تفصيلاً في إحياء علوم الدين باب فوائد السفر، ص713، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1426ه، والرحلة الحجازية لمحمد السنوسي، تحقيق علي الشنوشي، الشركة الوطنية للتوزيع،1397هـ، د ط، ص56.
[26] ــــــ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي، مكتبة السنة، طبعة جديدة، 1410هـ،، ص 418 .
[27] ــــــ الرحلة عين الجغرافيا المبصرة، صلاح الدين الشامي، منشأة المعارف، الاسكندرية، الطبعة الثانية، 1999م ص112.
[28] ــــــ سورة الحج، الآية : 27 – 29 .
[29] ــــــ أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، سعيد الأفغاني، ص 393
[30] ــــــ انظز: الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، زكي حسين، درا الرائد العربي، بيروت، 1401 هـ، د ط، ص 7-8 .
[31] ــــــ الدعوة إلى الإسلام، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، د ط ، 1992م، ص 47.
[32] ــــــ الرحلة في طلب الحديث، فاضل إسماعيل خليل، ص 35.
[33] ــــــ انظر: مقدمة الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق نور الدين عتر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى،1395هـ، ص31.
[34] ــــــ انظر: المرجع السابق، ص31.
[35] ــــــ انظر: الرحلة عين الجغرافيا المبصرة، صلاح الدين الشامي، ص111 .
[36] ــــــ وللرحلة تصانيف عديدة منها: المسالك والممالك لابن خرداذبة، والخراج لقدامة بن جعفر، وكتاب البلدان لليعوقبي، ومروج الذهب للمسعودي، وصورة الأرض للإصطرخي المعروف بالكرخي، ومختصر كتاب البلدان لابن فقيه الهمذاني، واحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، ورحلة ابن جبير، ورحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة لابن فضلان، حققه: شاكر العيسى، , ورحلة ابن بطوطة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، كما صنف العلماء قديماً وحديثاً مصنفات خاصة ببعض الرحلات كالرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، والرحلة الحجازية ولمحمد الشريف مصنف أسماه المختار من الرحلات الحجازيــــة وفيــــــه جمع عدداً من كتب رحلات الحرمين من إصدار دار الأندلس الخضراء ، والرحلات الجغرافية انظر: الرحلة عين الجغرافيا المبصرة لصلاح الدين الشامي، كما أن هناك مصنفات اختصت بسرد كتب الرحلات منها الرحلة في التراث العربي لفؤاد قنديل، والرحلات لشوقي ضيف، والرحلة والرحالة المسلمون لأحمد رمضان احمد، ومشوار كتب الرحلة قديماً وحديثاً لسيد النساج، ويعد كتاب موسوعة الرحلات العربية والمعربة المخطوطة والمطبوعة (معجم بيليوجرافي) لمحمد بن سعود الحمد من إصدار الفاروق الحديثة بالقاهرة من أحدث وأفضل ما صنف في الرحلات والرحالة.