أهمية الرحلة في الدعوة إلى الله
-
توطئـــــــة:
تأتي أهمية الرحلة في الدعوة إلى الله بعد ما يحط الداعية رحله من سلسلة الرحلات الطويلة التي قضاها في طلب العلم؛ والرحلة لأجل الدعوة هي مهمة الدعاة وإلا من يكون لهذا الأمر إن هم تركوه وكتب السير والتراجم والطبقات والتاريخ حافلة ببيان المسيرة العطرة للدعاة المصلحين من الأنبياء والمرسلين ومن سار على دربهم إلى يوم الدين.
لقد استشعر السلف الصالح أهمية طلب العلم والرحلة لأجله، وكما جاءت النصوص الكثيرة حاثةً على تعلم الدين وأحكامه كذلك جاءت بالتحذير من كتمان العلم وحاضةً على تبليغه قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (1)
قوله : ﱡﭐﲐ ﲑ ﲒﱠ قيل : المراد بهذه الآية علماء اليهود، لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد ﷺ … وهذا السبب وإن كان خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا، وذكر البطون دلالة وتأكيداً أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل : أكل فلان أرضي، ونحوه (2).
-
اهتمام الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) بالرحلات الدعوية:
كان الصحابة (رضي الله عنهم) يفدون إلى رسول الله ﷺ فيسلمون ويتعلمون مبادئ الدين وأصوله في أيام قلائل ثم يرحلون إلى أقوامهم معلمين وداعين إلى الله على بصيرة .
من هؤلاء عروة بن مسعود الثقفي (رضي الله عنه) الذي تبع رسول الله ﷺ لما انصرف إلى الطائف فأدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم وسأل رسول الله ﷺ أن يرجع إلى قومه بالإسلام، وبالرغم من تحذير الرسول ﷺ له بقوله : (( إن فعلت فإنّهم قاتلوك )) إلا إنه (رضي الله عنه) آثر ما عند الله فقال (رضي الله عنه): يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم ، وكان فيهم محببا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام، فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على قومه وقد دعاهم إلى دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله. وكان قد قيل لعروة (رضي الله عنه) قبل موته: ما ترى في دمك؟ فلم يكن جوابه (رضي الله عنه) إلا الرغبة فيما أعده الله للدعاة الذين نالهم من دعوتهم الأذى في سبيل الله، قال (رضي الله عنه) : كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله ﷺ قبل أن يرتحل عنكم (3).
” وكان ﷺ يبعث رسله يتفرقون في شتى الجهات، وخاصة في جنوب الجزيرة العربية لتعليم الناس مبادئ الإسلام و أحكامه، فقد انتشر أمر الإسلام في الجزيرة في مختلف أطرافها، وأصبحت الحاجة داعية إلى معلمين ودعاة ومرشدين يشرحون للناس حقائق الإسلام، حتى يستقر في قلوبهم بعد أن انتشر في ربوعه” (4).
لقد اجتمع في الصحابة (رضي الله عنهم) الذين بعثهم النبي ﷺ دعاة صفات أهلتهم لأن يكونوا ممثلين له ﷺ في الدعوة إلى الله فقد كانوا أقوياء أشداء في الحق، حكماء في الدعوة، صبروا على البلاء وتعاملوا مع كافة المواقف التي تعرضوا لها بالحكمة والدهاء، فلم يعرف مصعب بن عمير (رضي الله عنه) الانفعال في مواجهة التعنت والإيذاء، بل كانت الرقة والسماحة والصبر منهجه مع الصغراء قبل الكبراء.
” ولم يفقد جعفر (رضي الله عنه) رباطة جأشـــه حينـما رأى وفـــد قريـــش يجلســـون مع النجاشي، ويوجهون له الأسئلـــة في تحـــدٍ واستفــــزاز، وإنمـــا كان متخلقاً بخلق الإسلام” (5).
“لقد كان إرسال الدعاة إلى شتى أنحاء الأرض في جزيرة العرب المظهر الواضح للرحلة لنشر الإيمان والعلم، لأن مهمة هؤلاء كانت واضحة، ألا وهي نشر العلم الذي جاء به رسول الله ﷺ من عند الله تعالى من الدعوة إلى الله وتوحيده، ومن التشريع الرباني الذي جاء به الإسلام لينظم كافة مناحي الحياة الفردية” (6).
“إن أهم ما ينبغي على المسلم أن يفهمه من أمر هؤلاء الرسل و أمثالهم الذين بعثهم رسول الله ﷺ لأمر الدعوة إلى الإسلام وتعليم مبادئ الإسلام وأحكامه ؛أن مسئولية الإسلام في أعناق المسلمين جميعاً في كل عصر وزمن وليست من السهولة و اليسر كما يتصور معظمهم اليوم، فلا يكفي أن ندعى الإسلام بألسنتنا المجردة، كما لا يكفي أن يكون نصيبه من حياتنا بعض أعمال يسيرة، كانت في أصلها جليلة، ثم تحولت في حياتنا إلى عادات وتقاليد .. لا ترتفع مسؤولية الإسلام عن أعناق المسلمين حتى يضيفوا إلى هذا القيام بواجب الدعوة إليه، والتبشير به، والسفر في سبيل ذلك إلى شتى الجهات و القرى و البلدان، تلك هي الأمانة التي ألقاها رسول الله ﷺ في أعناقنا” (7).
وعلى هذا فسياحة الدعاة ورحلتهم للدعوة إلى الله أمرٌ دأب عليه السلف وحثوا الدعاة عليه كما كان من سيدهم وقدوتهم ﷺ الذي كان يبعث أصحابه ليسيحوا في البوادي ويبلغوا أمر الله، وبعد وفاة النبيﷺ انتشر الصحابة(رضي الله عنهم) في أصقاع الأرض ليبلغوا دين ربهم.
يقول زياد الزبيدي ــ الذي كان في جند عمرو بن العاص ــ : “فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيره بين الإسلام والنصرانية فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية.. من حرصهم على دعوة الناس” (8).
وكان ابن شهاب الزهري (رضي الله عنه) يخرج إلى الأعراب ليفقههم في الدين (9).
إن في سير الدعاة المرتحلين من الصحابة(رضي الله عنهم) والتابعين ومن تبعهم بإحسان صفحاتٍ مشرقةً تكتب بماء الذهب وهي دليل قاطع وبرهان ساطع على صدق الغاية وعلو الهمة وسمو القصد جهود تبعث على شحذ الهمم وتثير غيرة الدعاة وحميتهم والأمة اليوم بأحوج ما تكون إلى رحلة الدعاة الصادقين إلى أرجاء المعمورة وكل بحسب قدرته وعلمه .
-
أهمية الرحلة في الدعوة إلى الله تعالى:
الارتحال للدعوة إلى الله تعالى وبذل الجهد واستفراغ الوسع همٌ يجب على الدعاة أن يحملوه ويعملوا له إذ إن الأرض تعج بالشرك والكفر والمخالفات لابد من استشعار الداعين لمعية الله وأنهم بعوثه إلى خلقه لهداية الناس وإرشادهم وإنارة بصائرهم. فعن سليمان بن حبيب المحاربي ــــ رحمه الله ــــ قال: “خرجت غازيا، فلما مررت بحمص خرجت إلى السوق لأشتري ما لا غنى للمسافر عنه، فلما نظرت إلى باب المسجد قلت: لو أني دخلت فركعت ركعتين، فلما دخلت نظرت إلى ثابت بن معبد، ومكحول في نفر فقالوا: إنا نريد أبا أمامة الباهلي. فقاموا وقمت معهم، فدخلنا عليه فإذا شيخ قد رق وكبر، وإذا عقله ومنطقه أفضل مما نرى من منظره، فكان أول ما حدثنا أن قال: إن مجلسكم هذا من بلاغ الله إياكم، وحجته عليكم، إن رسول الله ﷺ قد بلغ ما أرسل به، وإن أصحابه قد بلغوا ما سمعوا، فبلغوا ما تسمعون” (10).
لقد استشعر (رضي الله عنه) عظم المسؤولية وأن الدعوة أمانة ملقاة على عواتقهم دون غيرهم وهذه الغيرة إن لم يستشعرها الدعاة ويحملوها فستكون الدعة والركود والعزلة .
“فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره … وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما … وقد غرّ إبليسُ أكثر الخلق بأن حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به … وهؤلاء ـــــ مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم ـــــ قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب” (11).
“ولا ينبغي للداعية أن يبتئس إن لم يجد فضل وقت لقيام الليل يومياً، والإكثار من ختمات القرآن، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجرًا، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكاً هادفاً، ولا ينتظرون مجيء الناس لهم ليسألوهم هكذا كان شأن الدعاة دومًا. إن الإسلام حركة وعمل ودعوة وجهاد، والإسلام يتمثل في رجاله الذين يتحولون إلى قرآن يسير على الأرض، ويتمثل صوراً متحركة في المجتمع، وهكذا كان الصحابة (رضي الله عنهم)المرتحلون للدعوة (12). ومن حق المدعو أن يؤتى ويدعى، أي أن الداعي يأتيه ويدعوه إلى الله تعالى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، وهكذا كان يفعل الداعي الأول نبينا الكريم ﷺ يأتي مجالس قريش ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في منازلها في موسم قدومها في مكة، ويدعوهم، ويذهب إلى ملاقاة من يقدم إلى مكة ويدعوهم” (13).
قال الغزالي ـــــــ رحمه الله ـــــــ: “إعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن مُنْكر، من حيث التَّقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحمْلهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البـلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعرابُ والأكْراد والتُّرْكُمانِية، وسائرُ أصناف الخلْق، وواجبٌ أن يكون في كل مسجدٍ ومَحَلَّةٍ من البلد فقيهٌ يعلّم الناس دينَهم وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه – فرغ من فرض عينه لفرض الكفاية أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلِّمَهم دينهم وفرائض شرعهم” (14).
يقول الغزالي بهذا في زمانه فكيف لو رأى ما في زماننا فإلى الله المشتكي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟
وعن جعفر بن سليمان قال : “سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعتُ ألا أنام لم أنم مخافة أن ينـزِل العذاب وأنا نائـــــم، ولو وجـــدت أعوانا لفرَّقْتُهم ينادون في سائـــــــر الدنيا: يا أيهــــا الناس : النارَ النارَ” (15).
إن واقع المسلمين اليوم فضلاً عن غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ليشهد تحولات هي أحوج ما تكون إلى الرحلات الدعوية وفق منهج السلف الصالح، فعلى الدعاة أن يشمروا عن سواعد الجد، ويرتحلوا لمشارق الأرض ومغاربها، إذ أن العالم اليوم يشهد تحركاتٍ دعويةً حثيثةً من أصحاب العقائد والمذاهب الضالة.
إن الإسلام في هذه المرحلة بحاجة إلى العناصر المتحركة .”وإنّ تحرك صحابة النبي ﷺ بعد وفاته في أقطار الأرض لَدَليلٌ على أن الشخصية التي صاغها النبي ﷺ ورباهم عليها هي الشخصية المتحركة للدين التي لا تعرف السكون ولا الكمون” (16).
[1]– سورة البقرة، آية : 159.
[2]– فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية للشوكاني، 1/106.
[3]– الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، 3/1066.
[4]– فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، محمد سعيد البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة العاشرة، 1411ه، ص471.
[5]– سلسلة تاريخ الدعوة إلى الله تعالى، أحمد غلوش، 2/ 507.
[6]– الرحلة للدعوة ونشر العلم، صالح رضا، بحث محكم، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها (ع25،شوال 1423هـ، 15/ 447).ص 469.
[7]– فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، محمد سعيد البوطي، ص473.
[8]– تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، الأردن، عمان، د ط، د ت، ص671.
[9]– سير أعلام النبلاء للذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، د ط، 1422هـ، 5/341.
[10]– مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 10/354.
[11]– إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ، 2/121.
[12]– انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، محمد برنغيش، ص176.
[13]– أصول الدعوة، عبد الكريم زيدان ، ص347.
[14]– إحياء علوم الدين، أبي حامد الغزالي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1426هـ، ص820.
[15]– حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الإمام الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، د ط، 1416ه، الطبقة الأولى من التابعين، مالك بن دينار، ص370.
[16] ـــــ ثلاثون طريقة لخدمة الدين، المعتز بالله الصمدي، دار الخلفاء الراشدين للنشر، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2007م، ص 8.