أثر الرحلات الدعوية في انتشار اللغة العربية

امتن الله جل في علاه بأن أنزل القرآن بلغة العرب فكان هذا تشريفاً للعرب وللغتهم قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (1).

لقد اكتسبت اللغة العربية بهذا قدسيتها فكان ذلك ضماناً لحفظها من التبديل أو التغيير أو التأثر بإحدى اللغات الأخرى قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ۝ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ۝ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ (2). فحفظها الله تعالى بحفظه قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (3).

” فنزول القرآن الكريم بالعربية – كما يتضح من آيات القرآن نفسه – دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر، والأثر الأظهر في نشرها، وخلودها  وهي – أيضا – لأنها أغنى اللغات بيانا وأقواها، برهانا كانت ولا تزال عاملاً مساعداً لنشر الإسلام، والإقبال عليه. ويكفي تدليلا على ذلك اختيار الله لها لسانا لدينه العام والأخير” (4).

وعلى هذا فتعلم العربية من الدين قال شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــــ : “… إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلاَّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب” (5).

وقال أبو منصور الثعالبي ــــ رحمه الله ــــ : ” من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً ﷺ ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ومن أحبَّ العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً ﷺ خير الرسل والإسلام خير الملل والعرب خير الأمم والعربية خير اللغات والألسنة. والإقبال على تفهمها من الديانة إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد” (6).

وقال الإمام الشافعي ــــ رحمه الله ــــ : ” على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيراً له” (7).

ولذا كان نشر اللغة العربية من ثمرات الرحلات والبعــــــــــوث الدعوية للصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) فقد ساهم دعاتها في ” تحول لسان الأهالي في البلاد المفتوحة إلى اللسان العربي وهجر لغاتهم المحلية، وقد حدث هذا في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية في المنطقة المحصورة بين الخليج والمحيط والمعروفة حالياً بمنطقة الدول العربية فقد هجر أهالي تلك البلدان لغاتهم الأعجمية وحلت اللغة العربية محل الآرامية والسريانية في الشام والعراق، والقبطية في مصر، والبربرية في بلدان المغرب” (8).

لقد بذل الصحابة والتابعون (رضي الله عنهم) في رحلاتهم الدعوية الغالي والنفيس لتعليم الناس أمور دينهم وبالطبع لم تكن إلا باللغة العربية لغة القرآن الكريم، وكان الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)  الذي كان عهده مزدهراً ببعث الدعاة من الصحابة والتابعين لتفقيه الناس وتعليم أمور دينهم يأمر مبعوثيه ” بتعليمها لغير الناطقين بها فعن  أبي عثمان النهدي قال: “بأن كتاب عمر ابن الخطَّاب (رضي الله عنه) أتاهم وهم بأذربيجان يأمرُهم بأشياء، وذكَر فيه: تعلَّموا العربيَّة” (9).

وكان (رضي الله عنه) يرى أن تعلم اللغة العربية من الفقه فقد كتب إلى مبعوثه إلى البصرة أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) :” أما بعد: فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي” وفي

حديثٍ آخَر عن عمر (رضي الله عنه) أنه قال: “تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم” (10).

ورُوي عنه (رضي الله عنه) أنه قـــال:” تعلمـــوا الفرائــــض والسنــــة واللحــن، كما تتعلمون القرآن” (11).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـــــ رحمه الله ـــــ : ” وهذا الذي أمر به عمر (رضي الله عنه) من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله” (12).

لقد كان نشر اللغة العربية من الثمرات التي ساهم فيها دعاة الرحلات والبعوث الدعوية من الصحابة والتابعين(رضي الله عنهم) ففي الشام التي رحل وبُعث إليها بعض الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) كعبادة ابن الصامت، ومعاذ، وأبي الدرداء، والنعمان بن بشير الأنصاري (رضي الله عنهم) وابن شهاب الزهري حلت العربية محل الآرامية والسريانية، وفي العراق التي  بعث أمير المؤمنين عمر الفاروق(رضي الله عنه)  إليها عدداً من الصحابة كابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وعشرة من الصحابة (رضي الله عنهم) منهم عبد الله بن مغفل المزني (رضي الله عنه)  حلت العربية محل الفهلوية، وفي مصر التي رحل إليها نافع مولى ابن عمر مبعوث عمر بن عبدالعزيز (رضي الله عنه) حلت العربية محل القبطية، وفي إفريقية  التي كان من بعوثها التابعي الجليل موهب بن حيي المعافري، وعبد الرحمن بن رافع التنوخي حلت العربية محل البريرية، وهكذا ساهمت تلك الرحلات والبعوث الدعوية في نشر اللغة العربية (13).

عن مسروق (رضي الله عنه) قال: ” كان عبد الله وحذيفة وأبو موسى (رضي الله عنهم) في منزل أبي موسى (رضي الله عنه) فقال  حذيفة (رضي الله عنه): اما أنت يا عبد الله بن قيس فبعثت إلى أهل البصرة أميراً ومعلماً، فأخذوا من أدبك، ومن لغتك، ومن قراءتك، وأما أنت يا عبد الله بن مسعود فبعثت إلى أهل الكوفة معلماً، فأخذوا من أدبك، ومن لغتك، ومن قراءتك، فقال عبد الله: أما إني إذاً لم أضلهم، وما في كتاب الله آية إلا أعلم حيث نزلت، وفيم نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لرحلت إليه” (14).

“والذي يلفت النظر أن هذا الانتشار الواسع والسريع والعميق لهذا اللسان في بلاد الشام والعراق، ومصر وشمال إفريقيا، وفي بلدان غير ذلك كثيرة تـم دون جبر أو إكراه، ومن غير خطة دبرها الدعاة لذلك . ولكنها العقيدة تملأ الوجدان فيدرك صاحبها أنه في حاجة إلى المزيد من خير زاد، فتتجه همته قوية فتية إلى هذا اللسان المبين لتصبح في متناوله كنوز العلم والمعرفة التي وعاها الكتاب العزيز. إن الإسلام منة على ذلك اللسان، كشف قدرته، وحوله إلى لسان عالمي، ونزل القرآن الكريم به دليلاً على فضله وسمو قدره” (15).


[1] –  سورة يوسف الآية : 2 .

[2] –  سورة الشعراء الآية : 192 – 195.

[3] –  سورة الحجر الآية : 9.

[4] –  اللغة العربية لسان وكيان، أحمد محمد جمال، مجلة البحوث الإسلامية، العدد الأول، من رجب إلى رمضان لسنة 1395هـ، ص95 .

[5] –  الإيمان لابن تيمية، محمد ناصـــر الدين الألباني،  المكتب الإسلامي، الأردن، الطبعة الخامسة، 1416هـ، ص 97.

[6] –  فقه اللغة وسر العربية، حققه: عبد الرزاق المهدي،  إحيـــاء التراث العربي، الطبعــــة الأولى، 1422هـ، ص 15.

[7] –  الرسالة للإمام الشافعي، للمحقق أحمد شاكر، مكتبه الحلبي، مصر، الطبعة الأولى، 1358هـ،1/ 47.

[8] –  الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي محمد الصلابي، ص 65.

[9] –  المرجع السابق، ص 12.

[10] -اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، تحقيق ناصر العقل، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة السابعة، 1419هـ،1/528.

[11] -طبقات النحويين واللغويين، محمد بن الحسن الزبيدي، المحقق : محمـــد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1984م،، ص 12.

[12] -المرجع السابق، 1/528 .

[13] – انظر: إلى الفصحى لغة القرآن، أنور الجندي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د ط، 1402ه، من ص69، وكذلك الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار،  علي محمد الصلابي، ص 65.

[14] ـــــ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور، حققه: مجموعة من المحققين، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1402 هـ، 4/398.

[15] – اللسان العربي والإسلام، سيد رزق الطويل، كتاب صادر عن سلسلة دعوة الحق من اصدار رابطة العالم الإسلامي، السنة السادسة العدد 60، ربيع الأول 1407هـ ص28.