الرحلات والبعوث في سنة المصطفى ﷺ
سنة المصطفى ﷺ مليئة بالرحلات والبعوث الدعوية فرسول الله ﷺ المبعوث رحمة للعالمين رحل للدعوة وكان ﷺيبعث البعوث ويرسل الدعاة من الصحابة رضوان الله عليهم إلى أصقاع الأرض مبشرين ومنذرين.
بل إن طبيعة الرسالة المحمدية للعالمـــين تقتضي الترحــل لتبليــغ الدعوة ونشـــر الديـــن فالله تبـــارك وتعالى أمـر رسولــه ﷺ بتبليــغ الديـــن قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ﴾ (1) وقـال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ (2)، وقال تعالى عن رسوله ﷺ : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (3)، وغيرهـا من الآيـــات العديـدة التي توالت في أوامر التبليغ للرســول ﷺ.
و”الله عز وجل أرسل محمدا ﷺ الى جميع الثقلين الإنس والجن وأوجب عليهم الايمان به وبما جاء به وطاعته وان يحللوا ما حلل الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله ويحبوا ما احبه الله ورسوله ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد ﷺ من الانس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث اليهم الرسول وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين أهل السنة والجماعة” (4).
وقد بين الله تبارك وتعالى ذلك في آيات عديدة قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (5) . وقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (6). وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ (7). وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (8). وقال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ﱠ (9).
فهذه الآيات تفيد صراحةً أن الدعوة الإسلامية للعالمين، وأنها تعم المعاصرين لنزول القرآن ومن سيأتي بعدهم إلى يوم القيامة. بل إنها تشمل الجن مع الإنس باتفاق جمهور العلماء” (10).
ومما يؤكد عموم هذه الرسالة أن الرسول ﷺ رحل للطائف ليدعو أهلها إلى عبادة رب الأرباب وكان ﷺ يوافي الناس في أماكن تجمعاتهم ويرحل إليهم.
“وهكذا استعمل رسول الله ﷺ وسيلة الانتقال من أجل الدعوة وتبليغ الرسالة؛ لما لها من أهمية في مباشرة التوجيه، ومعرفة موقف المدعوين، والرد على تساؤلاتهم واستفساراتهم، وكان النبي ﷺ لا يفرق بين قوم وقوم، ولا بين مكان ومكان، بل كان يتجه كلما أمكنه ذلك … ولعل ذهابه إلى الطائف سيراً على قدميه ذهاباً ورجوعاً، دليل على ذلك، وعلى مدى ما تحمله الرسول ﷺ للدعوة بهذه الوسيلة” (11).
“بدأت الدعوة بدعوة أفراد كان النبي ﷺ ذا صلة بهم كأبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وعلى بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهم السابقون الأولون إلى الإسلام، ثم انتقلت الدعوة إلى عشيرته الأقربين، ثم إلى جميع الناس في مكة، ثم انتقلت إلى القرى المحيطة بمكة، وكان النبي ﷺ ينتقل بنفسه ـــ وحيداً ـــ إلى تلك القبائل خارج مكة ثم أخذت الدعوة، مجالاً جديداً بلقاء النبي ﷺ لنفر من أهل يثرب ..وتبع ذلك التمهيد للهجرة العظمى إلى المدينة، وبعد أن استقر النبي ﷺ والمهاجرون بالمدينة، وأعز الله المسلمين، ودخل الأنصار في الإسلام وتكونت دولة الإسلام لأول مرة في التاريخ، وبعد أن عقد النبي ﷺ مع أهل مكة صلح الحديبية ووضعت الحرب أوزارها بمقتضى الصلح بين الفريقين أخذ النبي ﷺ يرسل الرسل ويبعث البعوث” (12).
“فصلح الحديبية كان إيذاناً ببداية المد الإسلامي، فقد انساح هذا المد إلى أطراف الجزيرة العربية بل تجاوزها إلى ما وراء حدود الجزيرة العربية” (13) .
“قال ابن إسحاق ــــ رحمه الله ــــ : لما افتتح رسول الله ﷺ مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه (14). فعرف هذا العام ـــ وهو العام التاسع من الهجرة ـــ بعام الوفود، لكثرة من وفد إلى النبي ﷺ” (15).
“كان ﷺ يكرم كل وفد عامة، ويكرم كريمهم خاصة، فيوليه عليهم، ويوصيه بهم، وكان يحسن استقبالهم جميعاً، ويسألهم عمن خلفوا من أولادهم وأهليهم، ثم يشيعهم بأكرم وداع وأجمله، كما استقبلهم بأحسن ترحيب وأحفله.
وامتدت مكرمته ﷺ إلى البعوث والوفود من بعده، فأوصى بهم، وأمر بإكرامهم، ولا تزال تمتد وصايته ومكرمته ما اهتدت أمته بهديه، واستمسكت بسنته ورشده؛ لأنهم رسل من خلفهم، وقادة من ورائهم، ولأنهم ـــ ما داموا مخلصين في العلم وطلبه ـــ وفد الله ورسوله ﷺ، ومرحباً ثم مرحباً بوفد الله ورسوله ﷺ” (16).
“وفي السنة العاشرة من الهجرة بعث ﷺ فقهاء أصحابه إلى شتى الجهات، وخاصة جنوب
الجزيرة، للقيام بمهمة تعليم الناس أمور دينهم، حيث أصبحـــت الحاجـــة ماســـة إلى معلمــين ودعـــــــــاة” (17).
وقد اتخذ ﷺ كافة الأسباب المؤدية إلى نجاح هذه الوسيلة، فاختار دعاة مخصوصين” (18).
“حق على الدعاة إلى الله عامة، ومن ولاه الله منهم مقاليد الأمور خاصة، أن يتبينوا تاريخ البعوث في الإسلام، وكيف يتخيرها النبي ﷺ فإنما تنجح الدعوة وتؤتي أكلها بمقدار إخلاص صاحبها وحسن اختياره” (19).
ولم تقتصر الرحلة في سنة المصطفى ﷺ على هذا فحسب، بل إن لها مجالاً آخر فالصحابة والتابعون y ومن تبعهم بإحسان كانوا يرحلون لأجل طلب العلم ويستشهدون بأحاديث الرسول ﷺ التي رغَّبت في فضل طلب العلـــــــم كمثل قولــــــه ﷺ في الحديث الذي رواه أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُــــــــولُ اللَّهِ ﷺ:((…َمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ…)) (20).
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا، يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: (( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ )) (21).
وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَتَيْتُ النَّبِيَّﷺ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إلى أَهَالِينَا قَالَ: ((ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ )) (22).
“وقد حث ﷺ على إكرام طالب العلم، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضى بما يصنع” (23). “ولهذا كان جمع من أكابر السّلف إذا دخل إلى أحدهم غريب طالب علم يقول مرحباً بوصية رسول الله” (24).
“وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحباً بأحبة رسول الله ﷺ” (25).
وعلى هذا يتبين أن للرحلات والبعوث في سنة المصطفى ﷺمواقف كثيرة ومشاهد عديدة سيأتي بإذن الله وتوفيقه مزيد بيانها والتوسع في ذكرها، فالرحلة والبعوث الدعوية كانتا من الوسائل المهمة في دعوة النبي ﷺ ومازالتا كذلك بالنسبة لصحابته من بعده y والتابعين ومن تبعهم بإحسان، بل إنها سنة الله في أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فوسيلة الرحلة والبعوث الدعوية تعد أحد الأركان المهمة في مباشرة الدعوة نظراً لعموم رسالة نبينا ﷺوعالميتها، وكما مر فإن الأمة تحتاج اليوم إلى استعراض تاريخ الرحلات والبعوث النبوية لتستقي منها النهج الصحيح الذي يجب على الأمة اليوم أن تعمل به، وكما يجب على بعض الدعاة الرحلة للدعوة فإن الرحلة في طلب العلم كانت شعار طلاب العلم وأحد أهم مصادر الثراء والسعة في العلم والمعرفة، ومازالت كذلك.
قال ابن خلدون ــــ رحمه الله ـــ : ” إن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، والسبب في ذلك: أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة: علماً وتعليماً ولقاء، وتارة: محاكاة وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها وتفتحها” (26).
[1] ـــــ سورة المدثر، آية :2.
[2] ـــــ سورة المائدة، آية : 67.
[3] ـــــ سورة الأحزاب، آية : 45.
[4] ــــــ ايضاح الدلالة في عموم الرسالة لابن تيمية، مكتبة الرياض ، الرياض، د ط ، د ت، ص 3.
[5] ـــــ سورة الأنبياء، آية :107.
[6] ــــ سورة الفرقان، آية : 1.
[7] ـــــ سورة سبأ، آية : 28 .
[8] ـــــ سورة الأعراف، آية : 158.
[9] ـــــ سورة الأنعام، آية : 19.
[10] ـــــ الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها، أحمد غلوش، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الثانية، 1407هـ،ص 216.
[11] ـــــ سلسلة تاريخ الدعوة إلى الله تعالى، أحمد غلوش، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424هـ، 2/496.
[12] ـــــ فقه الدعوة في رسائل الرسول ﷺ إلى الملوك والأمراء، على حافظ الوادعي، رسالة ماجستير، جامعة طيبة، كلية الدعوة، 1425هـ، ص 151.
[13] ـــــ السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، على محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة السابعة، 1429ه، ص 714ـ
[14] ـــــ السيرة النبوية، لابن كثير، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1395هـ، د ط،4/76.
[15] ــــ التدرج في دعوة النبي، إبراهيم بن عبد الله المطلق، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، 1417هـ، الطبعة الأولي، ص 51.
[16] ــــ من ذخائر السنة النبوية، طه محمد الساكت، دار نور المكتبات، جدة، 1425ه،الطبعة الأولى،1/236.
[17] ــــ فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، محمد سيعد البوطي، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة العاشرة، 1411هـ، ص 473.
[18] ــــ الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها، أحمد غلوش، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الثانية، 1407هـ،ص 423.
[19] ـــــ من ذخائر السنة النبوية، 1/258.
[20] ـــــ أخرجه الإمام مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، ح2699، 17/22.
[21] ــــ أخرجه الإمام البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ح 71، 1/22 .
[22] ـــــ أخرجه الإمام البخاري: كتاب الاذان، باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد، ح 602، 1/ 220.
[23] ـــــ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي، 5/570.
[24] ـــــ التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، الطبعة الثالثة، 14.8هـ، 1/300.
[25] ـــــ الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان، للقرطبي، 20/90.
[26] ــــــ المقدمة، لابن خلدون، تحقيق: عبد السلام الشدادي، بيت الفنون والعلوم والآداب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2005م،3/226.