الرحلات والبعوث في القرآن الكريم

تعددت الرحلات التي ذكرها الله تبارك، وتعالى في كتابه. إلا إن لفظ الرحلة جاء مرة واحدةً في سورة قريش ، فقد ذكر الله تعالى تلك الرحلة ممتناً ومذكراً لقريش بتلك النعمة العظيمة وهي رحلة الشتاء والصيف قال تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ۝ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ۝ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (1).

“قال كثير من المفسرين: إن الجار، والمجرور متعلق بالسورة التي قبلها، أي: فعلنا ما فعلنا بأصحاب الفيل؛ لأجل قريش وأمنهم، واستقامة مصالحهم، وانتظام رحلتهم في الشتاء لليمن، والصيف للشام؛ لأجل التجارة والمكاسب” (2).

” قال الفراء: .. أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش . وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها ، فلا يغار عليها ولا تقرب في الجاهلية يقولون هم أهل بيت الله جل وعز ; حتى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة ، ويأخذ حجارتها ، فيبني بها بيتا في اليمن يحج الناس إليه ، فأهلكهم الله – عز وجل – ، فذكرهم نعمته . أي فجعل الله ذلك ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ﴾ أي ليألفوا الخروج ولا يجترأ عليهم” (3).

“إن ذلك جعل القبائل تحترم قريشا وتهابها .. فاجتمع لها أمور لا تجتمع لأمة إلا وسادت، فجودة التخطيط، والعلم والخبرة، والسيطرة على الاقتصاد، ومعرفة سياسة التجارة، وكسر شوكة العدو، وحصول الأمن الغذائي، وأمــــــن الأعـــــــداء، كل ذلك جعـــــــل من قريش قبيلــة، وبالتالي دولــــــــــة” (4).

“وعلى ضوء ذلك تمتعت مكة المكرمة بمكانة عظيمة، وتقاطر الناس عليها استجابةً لدعوة خليل الرحمن ابراهيم عليه السلام” (5).

لقد حوت هذه السورة القصيرة في آياتها العظيمة في معانيها، ودلالاتها أعظم ركائز العزة التي تنشدها أمة الإسلام، وهي أحوج ما تكون اليه اليوم، إذ إن العزة التي تبدأ بالإطعام والأمن تبدأ من توحيد الله جل وعلا وعبادة رب هذا البيت؛  وعندها سيطعمهم،  ويؤمنهم من كل المخاوف.

“إن المطلع على السورة الكريمة يعلم أنها اشتملت على أسس العزة والسؤدد، تلك الأسس التي من أحكمها ملك العزة، ومن أهملها غشيته الذلة، وكان عالة على غيره، تحت رحمته، وهذه هي الذلة بعينها” (6).  وأما ما يختص بالرحلات التي جاءت في كتاب الله دون ورود لفظ الرحلة فيها فهي:

 

1. رحلة الإسراء والمعراج:

وهي رحلة طيبة مباركة امتن الله بها على نبيه ﷺ؛ ليريه الله فيها من عجائب آياته،  وبديع مخلوقاته. إنها رحلة الإسراء الأرضية التي انتقل فيها ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عرج به في رحلة سماوية إلى سدرة المنتهى ثم العودة إلى المسجد الحرام قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (7).  “ينزه تعالى نفسه المقدسة، ويعظمها لأن له الأفعال العظيمة والمنن الجسيمة، التي من جملتها أنه ﴿أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ﴾ ورسوله محمد ﷺ ﴿لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ الذي هو أجل المساجد على الإطلاق ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ الذي هو من المساجد الفاضلة، وهو محل الأنبياء. فأسرى به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدا، ورجع في ليلته. وأراه الله من آياته، ما ازداد به هدى وبصيرة، وثباتا، وفرقانا. وهذا من اعتنائه تعالى به، ولطفه، حيث يسره لليسرى، في جميع أموره، وخوّله نعما، فاق بها الأولين والآخرين” (8).  وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ۝ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ ۝ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ ۝ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ ۝ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ۝ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ (9). 

“أي : إن كنتم تجحدون رؤيته في الأرض فلقد رآه رؤية أعظم منها إذ رآه في العالم العلوي مصاحبا، فهذا من الترقي في بيان مراتب الوحي، والعطف عطف قصة على قصة ابتدئ بالأضعف وعقب بالأقوى. سدرة المنتهى اسم أطلقه القرآن على مكان علوي فوق السماء السابعة، وقـــــــد ورد التصريح بها في حديث المعراج من الصحاح عن جمع من الصحابة (10).

 

2. رحلة نوح عليه السلام وأتباعه المؤمنين في السفينة :

من الرحلات التي قصها الله تبارك وتعالى علينا في كتابه رحلة سفينة نوح عليه السلام قال تعالى: بعد أن ذكر قصة دعوته في قومه :﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ۝ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ۝ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (11).

﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ ” أي: ونجينا عبدنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الدسر أي: المسامير  التي  قد سُمرت بها ألواحها وشُد بها أسرها ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ أي: تجري بنوح ومَن آمن معه، ومَن حمله من أصناف المخلوقات برعاية من الله، وحفظ منه لهـــا عـــن الغـــرق  ونظر، وكلئه منه تعالى، وهو نعم الحافظ الوكيل، ﴿جَزَاءً لِّمَن كَانَ﴾ أي: فعلنا بنوح ما فعلنا من النجاة من الغرق العام، جزاء له حيث كذبه قومه وكفروا به فصبر على دعوتهم، واستمر على أمر الله، فلم يرده عنه راد، ولا صده عنه صاد” (12).

 

3. رحلة يوسف عليه السلام وإخوته:

ومن الرحلات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم رحلة يوسف عليه السلام وإخوته، وهي رحلات متعاقبة بين أرض كنعان، ومصر. رحلات بدأت بيوسف عليه السلام مع السيارة ثم رحلة إخوته بسبب ما أصاب ديارهم من الجدب والمجاعة. وهكذا توالت الرحلات حتى استقرت بوصول أهله لمصر ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ (13).

“هذه الرحلات التي شهدت تحولات، وعظات هي كما قال عنها الله تبارك وتعالى في ختام السورة : ﴿عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾” (14).             

” إن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها، لما فيها من أنواع التنقلات، من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنَّة، ومن ذل إلى عز، ومن رقٍّ إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيـــق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك من قصها فأحسنها، ووضحها وبيَّنهــــــــا” (15).

” والهدى الذي في القصص : العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص، على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالةً على رحمة الله لهم وعنايته بهم، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسبب لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ” (16).

وسيأتي ـــــ بإذن الله تعالى ــــ مزيد بيان وتفصيل للرحلات الدعوية للأنبياء والمرسلين في المبحث القادم (17).

 

4. رحلة موسى عليه السلام لطلب العلم:

ومن الآيات التي جاءت في ذلك رحلة موسى عليه الصلاة والسلام فقد ذكر الله تبارك وتعالى تلك الرحلة في سورة الكهف قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ (18).  ” في هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، … فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى ـــ عليه السلام ــــ رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل؛ لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر؛ لزيادة العلم على ذلك” (19).  ” وفي معنى قوله تعالى: ﴿عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ﱠ أي: أن تعلمني علماً ذا رشد، وهذه القصة قد حرضت على الرحلة في طلب العلم، وإتباع المفضول للفاضل طلباً للفضل، وحثت على الأدب والتواضع للمصحوب” (20).

 

5. رحلة الحج:

من الرحلات التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه رحلة الحج قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (21).

﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ﴾ أي: أعلِمْ ونادِ في الناس، ﴿بِالْحَجِّ﴾ فقال إبراهيم: وما يبلغ صوتي؟  فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ .فقام إبراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً، وشمالاً، وشرقاً، وغرباً، وقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتا، وكتب عليكم الحــــج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كلُ مَن كان يحج من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهــــات: لبيك اللهم لبيك … قوله تعالى: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ مشاةً على أرجلهم جمع راجل مثل قائم، وقيام، وصائم، وصيام ﴿وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ﴾ أي ركباناً على كل ضامر، والضامر البعير المهزول ﴿يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ أي: من كل طريق بعيد” (22).

إن فريضة الحج رحلة باتجاه قراءة التاريخ، والوقوف على أسرار السيرة النبوية من أجل العودة الصادقة إلى المنابع الأصلية لهذه العقيدة الإسلامية، التي استطاعت أن تقيم صرح الحضارة العربية الإسلامية.

 

6. الرحلة من أجل الفرار بالدين من أرض الشرك:

قـــــــــــال تعالـــــى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (23).

“هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغماً في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا” (24).

ومن أشهر الرحلات في ذلك هجرة المسلمين الأولى، والثانية إلى الحبشة ثم هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة المنورة .

“فأما هجرة الحبشة ففي أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة بدأت الاضطهادات، ثم لم تزل في ازدياد يوماً يوماً، وشهراً شهراً، حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، … وفي هذا الوقت العصيب نزلت سورة الكهف ردوداً على أسئلة طرحها المشركون على النبي ﷺ، ولكنها اشتملت على ثلاث قصص، فيها إشارات بليغة من الله تعالى إلى عباده المؤمنين. فقصة أهل الكهف ترشد المؤمن إلى الهجرة من مراكز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين، متوكلا على الله: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ (25).   

“ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (26).    

“في هذه الظروف كانت هجرة المسلمين إلى الحبشة، فرارا بدينهم من بلاد الفتنة إلى بلاد الأمان” (27). “وعندما عاد بعض من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة، ووجدوا أن الابتلاء الواقع على المسلمين أصبح أشـد مما كان، ولما رأي الرســـــولﷺ حالهم، أذن لهـم بالهجرة مرة ثانية” (28).

وقد كانت هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة بسبب الابتلاء، والاضطهاد حيث ظل ﷺ يدعو في مكة ثلاث عشرة سنة تخلل ذلك رحلته الدعوية للطائف، فلما استعصت عليه مكة هاجر إلى المدينة . ومما يدل على أن الاضطهاد كان سبباً من أسباب هجرة الرسول ﷺ وصحابته إلى المدينة؛ أن بلالاً  tكان إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته قائلاً : ” اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء” (29).

كذلك ما جاء عن عائشة ـــــ رضي الله عنها ـــــــ قالت : استأذن النبيَ ﷺ أبو بكر في الخروج حين اشتد عليه الأذى” (30).

 

7. الرحلة للاستبصار والتذكر والاعتبار:

قــــــــــــــــــــــال تعالـــــــــــــــى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (31).

 “أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحتوياتها، ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها، فيرى كثيراً من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها… فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة . وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي؛ لأن السائر ليس له من قرار في طريقه، فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقاتٍ مبدوءةً من قبل، فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن، وأنه قادر على إيجاد أمثالها، فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمه” (32).

وقال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ۚ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ﴾ (33).

  “يقول – تعالى ذكره – لنبيه محمد  ﷺ: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك : سيروا في البلاد، فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذبوا رسله، كيف كان آخر أمرهم، وعاقبة تكذيبهم رسل الله وكفرهم” (34).

“قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين : سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب، وهذا السفر مندوبٌ إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار مـــن خلا من الأمم، وأهل الديار، والعاقبة آخر الأمر ، والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل” (35).

” وقد جاءت آياتٌ عديدةٌ في القرآن الكريم تدعو إلى السير في الأرض، والاعتبار بأحوال الأمم الماضية … والناظر إلى ديار الأمم الغابرة يرى ما وصلوا إليه من قوة وحضارة، فبادوا وأصبحوا عبرةً لمن بعدهم، وقد أرشد القرآن العظيم إلى أن هذه الأممَ الغابرةَ كان لهم شأن عظيم في بناء القصور، ونحت الجبال، وأعطاهم الله قوة في أجسامهم، فما أغنى عنهم كل ذلك لما كذبوا بآيات الله واستكبروا عن عبادته، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قــــــــــوة” (36).

إن استثمار الرحلات في عبادة التفكر بآيات الله ومخلوقاته لَأمرٌ تغافل عنه الكثير من الناس _ وإلى الله المشتكى _ خاصة بعد التوسع في أمر الرحلة والارتحال في عصرنا الحاضر تلكم العبادة التي يحيي الله بها قلوب من شاء من عباده.

” فالخير والسعادة في خزانة مِفتاحها التفكر؛ فإنه لا بد من تفكر وعلم يكون نتيجة الفكر، وحال يحدث للقلب من ذلك العلم ! فإن كل من علم شيئاً من المحبوب أو المكروه لا بد أن يبقى لقلبه حالة، وينصبغ بصبغة من علمه، وتلك الحال توجب له إرادة، وتلك الإرادة توجب وقوع العمــــــل” (37).

هذه الرحلات التي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى وقد ذكرها الله جل في علاه للتذكير بمنته، والتعريف بعظيم فضله إذ جعلها الله من أسباب العزة والسيادة والتمكين هذا ما يختص بلفظ الرحلات، أما لفظ البعوث فقد وردت مادة (بعث) في كتاب الله جل وعلا على معان متعددة تتنوع بتنوع ما علقت به تلك المادة، ومن هذه المعاني ما دل على المعنى المقصود من البعوث في هذا البحث، والذي يعنى الإرسال وقد وردت مادة (بعث ) دالة على معنى الإرسال في عدد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (38).

“والمعنى : أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم وينشر رسالته إلى جميع الناس من بلاد العرب فإن دلائل عموم رسالة محمد ﷺ معلومة من مواضع  أخرى من القرآن كما في سورة الأعراف : ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾” (39) ، وفي سورة سبأ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.(40).

“وهــــــذه الآيــــــة هــــي مصداق إجابـــــــــة الله لخليلــــــه إبراهيم حــــــين دعــــــا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . فبعثه الله سبحانه وتعالى ولــــــــه الحمــــــد والمنة، على حــــــــين فـــــــترة مــــــن الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجــــــــة إليــــــه” (41).

وسيأتي ـــــ بإذن الله تعالى ــــ مزيد بيان وتفصيل للبعوث الدعوية للأنبياء والمرسلين الواردة في القرآن الكريم في المبحث القادم (42).


[1] –     سورة قريش، من آية :1-4.

[2] –     تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبدالرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى،1420هـ، ص1694.

[3] –  تفسير القرطبي 20/180.

[4] –     منهجية البحث في التفسير الموضوعي للكلمة والآية والسورة القرآنية، والآية، أمين محمد البطوش، جامعة مؤته، الأردن، د ط ، 2000م ، ص51.

[5] –     الرحلات المغربية والأندلسية، عواطف محمد يوسف نواب، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، د ط، 1417هـ، ص30.

[6] – منهجية البحث في التفسير الموضوعي للكلمة والآية والسورة القرآنية، والآية، أمين محمد البطوش، ، ص52 .

[7] –     سورة الإسراء، آية : 1.

[8] –     تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 796 .

[9] –  سورة النجم، من الآيات :13-18.

[10] –   التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د ط ، 1997م.،  28/101

[11]–    سورة القمر، من الآيات : 13-15.

[12] –   تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص825.

[13] –   سورة يوسف، آية : 100.

[14] –   سورة يوسف، آية : 111.

[15] –   تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 710.

[16] –   التحرير والتنوير، لابن عاشور، تفسير سورة النحل آية 97-98،  14 /  73-74 .

[17] –   انظر :  صفحة 50 من هذه الدراسة.

[18] –   سورة  الكهف، آية : 60 .

[19] –   تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، 483.

[20] –   زاد المسير لابن الجوزي، المحقق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي  بيروت، الطبعة الأولى ، 1422 هـ ، 5/170.

[21] – سورة الحج، آية : 27 .

[22] – معالم التنزيل في تفسير القرآن، (تفسير البغوي)، دار طيبة، الرياض، الطبعة الرابعة، 1417هـ  5/.379.

[23] –    سورة النساء، آية : 100، ” الهجرة تأتي بمعنى الترك يقال : هجرت الشيء هجرا إذا تركته .. وسمي المهاجرون مهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشئوا بها لله . انظر: لسان العرب لابن منظور (15/24 ) مادة هجر. وأما الرحلة فهي انتقال واحد أو جماعة من مكان إلى مكان آخر، لمقاصد وأغراضٍ مختلفة، وأسباب متعددة (انظر: دائرة المعارف  لبطرس البستاني 10/264) ، فعلى هذا تكون الرحلة لأجل الهجرة”،  انظر : الهجرة في القرآن الكريم ، احزمي سامعون جزولي،  مكتبة الرشد للنشر والتوزيع, 1996م، والهجرة في ضوء الكتاب والسنة، عبدالله الشويمان، رسالة ماجستير، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية الدعوة والإعلام، 1417هـ.

[24]–    تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 196.

[25] –   الرحيق المختوم للمباركفوري، دار العصماء ، دمشق، الطبعة الأولى، 1427هـ ، ص44، والآيـــــــــة من سورة الكهف، آيـــــــــــة : 16.

[26] –   سورة الزمر، آية : 10.

[27] –   السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: مهدي رزق الله، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1412هـ، ص 197 .

[28] –    المصدر نفسه: ص 206.

[29] –    فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث،  1407ه، د ط، كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي ﷺ أن تعرى المدينة، برقم 1790،ص 120.

[30] –    أخرجه الإمام البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة، برقم 3867 ، 4/503.

[31] –  سورة العنكبوت، آية :20.

[32] –   التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، د ط، د ت، 21/ 230.

[33] –  سورة الروم، آية :42.

[34] –   جامع البيان عن تأويــــل آي القرآن (تفسير الطبري)، حققه: عبدالله التركي، دار هجر ، الطبعة الأولى، 1422هـ،            20/ 111 .

[35] –   المرجع السابق نفسه، 6/370.

[36] –   التفكير في آيات الله تعالى ومخلوقاته في ضوء القرآن والسنة، عبد الله بن إبراهيم اللحيدان، مجلة البحوث الإسلامية، العدد السادس والستون، الإصدار: من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1423هـ، ص 146وص 160.

[37] –   مفتاح دار السعادة، لابــــــن القيم الجوزية، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1429هـ، 1/526.

[38]  ــــــ  سورة الجمعة، آية :2.

[39]  ـــــــ  سورة الأعراف، آية : 158.

[40]  ـــــــ  التحرير والتنوير لابن عاشور 29/ 208 ، والآية من سورة سبأ آية : 28.

[41]  ــــــ  تفسير ابن كثير،  8/117.

[42] –   انظر: صفحة (52) من هذه الدراسة.