رحلات نبينا صلى الله عليه وسلم الدعوية

الحمد لله رب العالمين رحل نبينا ﷺ رحلات دعوية عديدة منها رحلته للطائف حيث ذكر ابن إسحاق ـــ رحمه الله ـــ أنه: ” لما انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الطَّائِفِ، عَمَدَ إلى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ، وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ : عَبْدُ يَالَيْلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَدَعَاهُمْ إلى اللَّهِ، وَكَلَّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ ؛ فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ : هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَكَ وَقَالَ الثَّالِثُ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا . لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنْ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ . فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ – فِيمَا ذُكِرَ لِي – : إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي، وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ . فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَلْجَئُوهُ إلى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ، فَعَمَدَ إلى ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ، فَجَلَسَ فِيهِ . وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إلَيْهِ، وَيَرَيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطَّائِفِ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- الْمَرْأَةَ الَّتِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكَ؟… قالَ : فَلَمَّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ، وَمَا لَقِيَ، تَحَرَّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ، فَقَالَا لَهُ : خُذْ قِطْفًا ( مِنْ هَذَا ) الْعِنَبِ، فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إلى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ . فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : كُلْ، فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ  فِيهِ يَدَهُ، قَالَ : بِاسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ، وَمَا دِينُكَ ؟ قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى، فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ : وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ، فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ قَالَ: يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ. فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ، قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ مَالَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ؟ قَالَ: يَا سَيِّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلَّا نَبِيٌّ، قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ، لَا، يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ” (1).  “وكانت رحلة الرسول ﷺ هذه إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهاباً، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحـــــدة منها” (2).

وكان ﷺ يعرض نفسه على القبائل . “قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول الله ﷺ مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين، ممن آمن فكان رسول الله ﷺ يعرض نفسه في المواسم، إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين ( لهم ) الله ما بعثه به” (3).

ولم يكن الرسول ﷺ ليدع هذه الحشود من غير بلاغ، فاجتماعهم هذا فرصة سانحة للدعوة إلى الله فكان ﷺ  يتردد على هذه الأسواق في كل عام منذ أن أُمِرَ بإعلان دعوته. يقف على كل قبيلة ويعرض عليهم الدين الجديد، ويرغبهم فيه (4) . فكان ﷺ يوافـــي النـــاس فـــي أماكـــن تجمعاتهــــم ويرحـــل إليهــــم فعـــنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ : مَكَثَ رَسُـــــــــــــولُ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ بِمَكَّةَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِعُكَاظَ وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ : (( مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ ؟ )) (5).

لقد كان ﷺ  رحيماً وشفيقاً بأمته فإنه لما رجع مهموماً مغموماً من الطائف وقد لاقى من أهلها  ما لاقاه من أذى، وصدود، وتعنت، وعناد، عُرض عليه ﷺ موقفاً تتهاوى فيه شح الكثير من الأنفس رغبة في شفاء الغليل ولكن ليس مع المبعوث رحمة للعالمين فعن عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ : لِلنَّبِيِّ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟” ، قَالَ :  (( لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْـــتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ :  بَلْ أَرْجُـــــو أَنْ يُخْــــرِجَ اللَّهُ مِــــــنْ أَصْلَابِهِمْ مَــــــــنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْـــــــدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا )) (6).

قال ابن حجر ـــــ رحمه الله ـــــ : “وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي ﷺ على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهو موافــــــــق لقولــــــه تعالى :﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ (7) ، وقولــــــــه تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (8).

فتحمل الأذى سنة الله الماضية في رسله وأنبياءه عليهم الصلاة والسلام ومن حمل ميراثهم من بعدهم، ففي رحلته الدعوية إلى الطائف رأى صنوف التكذيب، والسخرية، والإيذاء ومع ذلك كان النصر حليفه فلم ينتقم بعد أن تمكن بل عامل بالصفح، والعفو، واللين وصدق الله الذي قال فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (9).

هذه رحلة الرسول ﷺ الدعوية إلى الطائف وهي مليئة بالدروس والعبر التي يستقي منها الدعاة أعظم دروس الصبر والرحمة والشفقة بالعباد، وأن الرحلة الدعوية قد لا تأتي بالنتائج التي كان يروجها الدعاة وأن المعول في كل جهد يقوم به يجب أن يكون ابتغاء ما عند الله وفق مراده جل في علاه. “إن في قصة هجرته إلى الطائف وما لاقاه من أذى من سفهاء ثقيف لعظة وعبرة للدعاة الذين يتأسون بسيرة الرسول ﷺ، فإذا كان الرسول ﷺ لقي ما لقي من المشاق في سبيل إقامة الدين، فمن باب أولى أن يلقـى الدعـاة أشد من ذلك، فعليهم أن يتهيأوا لذلك، لأنــه طريق الأنبياء والصالحـين، ولأن حكمة الله اقتضت أن لا ينتصر هـذا الدين بدون عمل وجهد البشر” (10).

ومن رحلات النبي ﷺ الدعوية رحلته للجن قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ (11).

روي عن ابن مسعود t أن النبي ﷺ قال : ” أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ ” فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبد الله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال : ” لا تجاوزه ” ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومأ إلي بيده أن اجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال : ” أردت أن تأتيني “؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال:” ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجـــــــــن أتــــــــوا يستمعون القـــــــــرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذريــــــن فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر” (12).

وكان الرسول ﷺ وهو في طريق عودته من الطائف إلى مكة قد أقام في وادي نخلة أيامًا‏ وخلال إقامته ﷺ هناك بعث الله إليه نفرًا من الجن ذكرهم الله في موضعين من القرآن‏: ‏﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ۝ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (13).

وقال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ۝ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ۝ وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ۝ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ۝ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ۝ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ۝ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ۝ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ۝ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ۝ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ۝ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ۝ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ۝ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ ۖ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ۝ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ۝ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ (14).

“من سياق هذه الآيات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث ـ يتبين أن النبي ﷺلم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا، وإنما علم بعد ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضى سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مرارًا” (15).‏

وهكذا استعمل رسول الله ﷺ وسيلة الانتقال من أجل الدعوة وتبليغ الرسالة؛ لما لها من أهمية في مباشرة التوجيه، ومعرفة موقف المدعوين، والرد على تساؤلاتهم واستفساراتهم، وكان النبي ﷺ لا يفرق بين قوم وقوم، ولا بين مكان ومكان، بل كان يتجه كلما أمكنه ذلك … ولعل ذهابه سيراً على قدميه ذهاباً ورجوعاً، دليل على ذلك، وعلى مدى ما تحمله الرسول ﷺ للدعوة بهذه الوسيلة” (16).


 [1]ـــــــ    السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخريْن، مؤسسة علوم القرآن ، دمشق، د ط، د ت ،1/420، وانظر : البداية والنهاية، لإسماعيل ابن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، دار عالم الكتب، د ط، 1424هـ، 4 /337. قال الألباني ــــ رحمه الله ــــ في (دفاع عن الحديث النبوي ص 19 ): ” …أما ( الطبقات ) فلم يذكر من القصة كلها إلا أحرفا يسيرة ومع ذلك فهو عنده ( 1 / 211 – 212 ) من قول محمد بن عمر بغير إسناد … وأما ( تهذيب السيرة ) فقد ذكره (2/60) من طريق ابن إسحاق بإسناد له مرسل إلا الدعاء فلم يسق له سندا فقد قال : ( فلما اطمأن رسول الله ﷺ قال- فيما ذكر لي- : اللهم . . . )  وقد أخرج القصة باختصار – وفيه الدعاء – الطبراني بإسناده عن ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن جعفر وابن إسحاق مدلس وقد عنعنه ولذلك ضعفـــــت الحديث في (تخريج الفقه)( ص 132).

 [2]ــــــ    انظر : الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، د ط، 1428هـ، ص125.

[3] ـــــ    السيرة النبوية، لابن هشام:  4/ 434- 435 .

[4] ـــــ    انظر : دعوة النبيﷺ  للأعْرَاب، حمود بن جابر الحارثي، دار المسلم، الرياض، الطبعة الأُولَى،1419هـ،ص147.

[5] ــــــ    أخرجه الإمام أحمد في مسنده ح14165، صححه الألباني وقال: وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، وقد صرّح أبو الزبير بالتحديث في بعض الطرق عنه. وقال الحافظ ابن كثير في تاريخه  البداية والنهاية (3/159 ـــ 160)، ورواه أحمد والبيهقــــي، وهـــــذا إسنـــاد جيد على شرط مسلــم، ولـــم يخرجـــوه … وقال الحاكــــم :  صحيح الإسناد، جامع لبيعة العقبة، و وافقه الذهبي. ثم روى قطعة يسيرة من آخره من طريق أخرى عــــــــن جابـــــــر بـــــــــه، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي (سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها : محمد ناصر الدين الألباني، 1/133).

[6]  ـــــ   أخرجه الإمام البخاري، كتاب بدء الخلق،  باب ذكر الملائكة، ح 3010، 3/1181.

[7]  ـــــ   سورة آل عمران، الآية : 159.

[8]  ـــــ   سورة الأنبياء، الآية : 107.

[9] ــــ سورة القلم، الآيـــــــة : 4.

[10] ــــــ  السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مهدي رزق الله، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى، 1412هـ، ص232.

[11] ــــ   سورة الجن، آية: 1-2.

[12] ــــ   تفسير القرطبي 6/19. قال صاحب السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ( مهدي رزق الله ص 229) : ”  وقد ثبت قدوم الجن على الرسول ﷺ في الصحيح ( أخرجه الإمام البخاري / الفتح 18/314 ح 4921، و مسلم 1/331/ح449) وذكر ابن حجر في (فتح الباري 18/315  وله مناقشة طويلة في ذلك ) أدلة تؤيد ما ذهب إليه ابن إسحاق (ابن هشام 273) وابن سعد (الطبقات 1/211-212) .

[13] ـــــ   سورة الأحقاف، آية : 29-31.

[14] ـــــ   سورة الجن، آية : 1- 15.

[15] ـــــ   انظر : الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري، ص 125.

[16]  ـــــ  سلسلة تاريخ الدعوة إلى الله تعالى، أحمد غلوش، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424هـ، 2/496.