أثر رحلات الصحابة والتابعين في تأسيس المراكز العلمية وقيام المدارس الفقهية
من أعظم ثمرات الرحلات الدعوية للصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) أنها جعلت من بعض الأماكن مراكز تعليمية شع نورها بين ممالك وبلدان العالم الإسلامي فأصبح طلاب العلم يقصدونها ويرحلون إليها من كل مكان.
فبعد أن اتسعت الفتوحات الإسلامية التي لم يكن الهدف منها إلا إعلاء كلمة الله العليا، وتبليغ الرسالة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم والتي لم تكن ” لحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، فــــــــ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (1). وإنما لإزالة الحواجز والعقبات المانعة من سماع دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولدفع الظلم عن المستضعفين في الأرض من الرجال والنساء والولدان. وكانت الدعوة إلى الإسلام وطرحه بأسلوب الحوار والمفاوضة الهادئة تسير جنبا إلى جنب مع الانتصارات العسكرية الباهرة التي حققتها الجيوش الإسلامية الفاتحة. وطريقة الحوار هذه كانت وسيلة من وسائل المسلمين المبتكرة في إقناع الشعوب بالتي هي أحسن كما تدعونا إلى ذلك أبواب الحوار والدعوة السلمية، ويكون أسلوب السيف هذا مؤقتا لإزالة العقبات التي تقف حائلا أمام تعريف الشعوب بعقيدة الإسلام” (2).
وبعد أن استقر دعاة الرحلات والبعوث الدعوية من الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) ” أصبحت في الأقاليم والأمصار الإسلامية مراكز علمية عظيمة، تشع منها أنوار الإسلام وعلومه، إلى جانب مراكز الإشعاع الأولى التي أمـــدت هــــذه الأقطــــار بالأساتــذة الأول” (3).
“وأدى انتشار التعليم ونشوء مراكز العلم في المدن الرئيسة مثل : مكة ، والمدينة ودمشق، والبصرة، والكوفة، والفسطاط، والقيروان إلى ازدهار الحركة الفكرية” (4).
“ولم يقتصر هذا النشاط على قُطْرٍ دُونَ آخَرٍ، بل كان عَامًّا شاملاً. فحلقات العلم كانت تعقد في كل مكان” (5).
وأما أبرز تلك المراكز العلمية الدعوية ففي مكة أم القرى كان الرسول ﷺ قد ترك معاذ ابن جبل (رضي الله عنه) أعلم الصحابة بالحلال، والحرام بعد الفتح ليعلم أهلها ويفقههم في الدين ، وكان ابن عباس (رضي الله عنه) قد رحل إليها داعياً ومعلماً، وإليه يرجع الفضل بعد الله في إنشاء مدرستها الفقهية حتى غدت معقلاً من معاقل العلم والفقه التي يرحل إليها طلاب العلم لينهلوا من علم ابن عباس(رضي الله عنه) ويحظوا بجوار بيت الله الحرام .
“احتلـــــت هــــــــــذه المدرســــة المكانــــــة في قلـــــوب المؤمنــــين، الساكنين والثائبين على بلد الله الحرام، الحجاج، والعمار، والزوار، بل أخذت مكة بألباب كل مؤمن رآها أو تمنى أن يراها” (6).
وأما مدرسة طيبة الطيبة فقد كانت مكانتها العلمية أعظم وأكبر فقد” كانت مهبط الوحي، ومستقر جمهرة الصحابة (رضي الله عنهم) إلى أواخر عهد ثالث الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) خلا الذين رحلوا إلى شواسع البلدان للجهاد ونشر الدين، وتفقيه المسلمين” (7).
وأما ما يختص بمدرستي العراق الكوفة، والبصرة فقد كانت الكوفة منزل كثير من الصحابة الذين عاشوا فيها وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) قد بعث إليها الصحابي الجليل “عبداللّه بن مسعود (رضي الله عنه) إلى الكوفة ،ليعلم أهلها القرآن، ويفقههم في الدَّين ، قائلًا لهم: ”وقد آثرتكم بعبد اللّه على نفسي” (8).
“ فابن مسعود (رضي الله عنه) عُني بتفقيه أهل الكوفة، وتعليمهم القرآن من سنة بناء الكوفة، إلى أواخر خلافة عثمان (رضي الله عنه) عناية لا مزيد عليها، إلى أن امتلأت الكوفة بالقراء، والفقهاء المحدثين.. وكان هناك معه أمثال سعد بن مالك أبي وقاص، وحذيفة، وعمار، وسلمان، وأبي موسى، من أصفياء الصحابة (رضي الله عنهم) يساعدونه في مهمته… ولم يكن باب مدينة العلم، بأقل عناية بالعلم منه، فوالى تفقيههم، إلى أن أصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المسلمين، في كثرة فقهائها، ومحدثيها، والقائمين بعلوم القرآن، وعلوم اللغة العربية فيها” (9).
وأما البصرة فقد أصبحت أحد مراكز العلم ومناراً يقصده طلاب العلم ويرتحلون إليه بعد أن رحل إليها الصحابي الجليل أبو موسي الأشعري(رضي الله عنه) وأنس بن مالك خادم الرسول ﷺ.
ومن ثمرات الرحلات والبعوث الدعوية للصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) أنها جعلت من الشام أحد مراكز العلم والنور بعد أن بعث إليها خليفة رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فئة من علماء الصحابة الأجلاء وهم معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء (رضي الله عنهم) فتفرقوا في أقاليمها وكانوا بذلك قد أسسوا أحد مراكز العلم والدعوة والإيمان فتخرج على أيديهم نخبة كثيرة من العلماء.
وأما إفريقية فكانت محط رحال كثير من العلماء والمفقهين وكان ” عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) أرسل عشرة من التابعين، يفقهون أهل إفريقية” (10)، “وقـد أصبحت القيروان مركـز الإشعـــاع الحضاري الإسلامـــي بالمغــــرب وعاصمتهـــا العلمية” (11).
“من كل ما تقدم يتبين لنا أن المسلمين عندما ساروا إلى البلاد المجاورة، لم يسيروا وراء دنيا يصيبونها، ولا خلف تجارة يربحون منها، وإنما انطلقوا ليحرروا الأمم من الظلم والطغيان، وينشروا بين أبناء البلاد الجديدة تعاليم الإسلام، ويأخذوا بأيديهم إلى جادة الصواب… ومن أجل تحقيق تلك الغاية المذكورة، استقر علماء الصحابة (رضي الله عنهم) في الأقطار المختلفة، وأمد الخلفاء الأمصار بالعلماء ليسرعوا في حركة التحرير والهداية والتعليم، وقد التف المسلمون الجدد حول من عندهم من الصحابة (رضي الله عنهم)” (12).
[1] – سورة البقرة الآية : 256 .
[2] – موجز عن الفتوحات الإسلامية، طه أبو عبة، دار النشر للجامعات، القاهرة، ص 3.
[3] – السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، رسالة ماجستير، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1400هـ، ص 164 .
[4] – تاريخ الدولة الأموية، عمر بن سليمان العقيلي، ص171 .
[5] – السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، رسالة ماجستير، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1400هـ، ص151 .
[6] – الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي محمد الصلابي، 2/254
[7] – نص بالراية لأحاديث الهداية للزيلعي، المحقق: محمد عوامة، مؤسسة الريان، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ، 3/543 .
[8] – سير أعلام النبلاء للذهبي1/484 .
[9] – نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي، حققه محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1418ه،3/543 .
[10] – طبقـــات علمــــاء إفريقية، لأبي العرب محمد المغربي الإفريقي، دار الكتاب، بيروت، د ط، ص 12.
[11] – الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، علي محمد الصلابي، 1/11 .
[12] – السنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، ص 174 .