أثر رحلات الصحابة والتابعين الدعوية في عمارة المساجد بالعبادة
عمارة مساجـــــد الله بالعبـــــــادة مـــن صفات المتقــــــــــين، وعلامات المؤمنـــــــين الذين أثنى الله ـــ تبارك وتعالى ــــ عليهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ (1).
فالمسجد يعد” من أهم مراكز التعليم الإسلامي في العصور الأولى … وقد لعبت المساجد دوراً تربوياً هاماً في أول الدعوة الإسلامية وكانت مركزاً للحياة السياسية والاجتماعية، والثقافية، والدينية، وكانت تقوم بوظائف متعددة” (2).
” لقد كان المسجد منذ عهد الرسول ﷺ المنطلق الأول للدعوة الإسلامية والمركز الأساسي الذي شعت منه رسالة محمد ﷺ… فلم يكن مركزا للعبادة والتعبد، والصلاة والتهجد فحسب، وإنما كان بالإضافة إلى ذلك مكانا وناديا يلتقي فيه المسلمون لتدارس أحوالهم وقضايا مجتمعهم، وما يعرض لهم في حياتهم من مشاكل وقضايا” (3).
وكان الفاتحون وجرياً على سنة معلمهم وقدوتهم ﷺ يبادرون إلى بناء المساجد في البلدان المفتوحة لتكون مركزاً للعبادة، والدعوة، والتفقه، والقضاء.
“وبمرور الوقت، ازدادت المساجد انتشاراً في الأمصار. وبدأ الفقهاء والعلماء ينتقلون من بلد إلى آخــــــر. ولذلك أصبحت الرحلــــة في طلـــــب العلم وسماع الشيوخ ضرورة ملحَّة” (4).
وعلى هذا فعمارة المساجد بالعبادة تعد من ثمرات رحلات الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) وبعـــــوثهم الدعويـــة إلى الأمصار إذ إنها الميدان التي يباشرون فيها جهودهم الدعوية، فقد أصبحت جامعات تستقطب طلبة العلم من كافة أنحاء المعمورة الإسلامية المترامية الأطراف.
وقد “ازداد النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم)، وانتشرت حلقات العلم في جميع المساجد، في مختلف الأمصار الإسلامية” (5).
ومن أشهر حلقات الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) المرتحلين للدعوة التي كانت تعقد يومياً في المسجد حلقة عبدالله بن عباس ــــ رضي الله عنهما ــــ المرتحل إلى مكة المكرمة وكان مجلسه في المسجد الحرام وكان يُخصص لكل فرع من فروع العلم يوماً دراسياً كاملاً فقد كان يجلس يوماً لا يذكر فيـــه إلا الفقــــه، ويوماً التأويل، ويوماً المغازي، ويوماً الشعر، ويوماً أيام العـــــرب” (6).
وفي الكوفة مكث عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قرابة خمسة عشر عاماً يعلم الناس ويفقههم في مسجد الكوفة حتى أنه لما رحل عنها بقى مسجد الكوفة عامراً بالقرّاء والحفظة وطلبة العلم ولهم دويّ بالقرآن قال عنه علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لما سمعهم فسأل وقال : ما هؤلاء؟. فقالوا: قوم يقرأون القرآن أو يتعلمون القرآن. فقال: أما إنهم كانوا أحبّ الناس إلى رسول الله ﷺ (7).
وكان الذين في حلقة أبي الدرداء (رضي الله عنه) المرتحل إلى دمشق ” أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، وكان أبو الدرداء (رضي الله عنه) يطوف عليهم قائما، فإذا أحكم الرجل منهم، تحول إلى أبي الدرداء (رضي الله عنه) ـــــ يعني يعرض عليه ــــ” (8).
وقال أبو رجاء العطاردي ــــ رحمه الله ــــ يقول : “كان أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه) يطوف علينا في هذا المسجد، مسجد البصرة ، يقعد حلقا، فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين يقرئنني القرآن، ومنه أخذت هذه السورة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (9) كانت أول سورة أنزلت على محمد ﷺ” (10).
كما كان لعمران بن حصين (رضي الله عنه) مبعوث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لتفقيه أهل البصرة مجلس علم في مسجدها فعن هلال بن يساف ــــ رحمه الله ــــ قال: “قدمت البصرة فدخلت المسجد، فإذا أنا بشيخ أبيض الرأس واللحية مستند إلى أسطوانة في حلقة يحدثهم، قال: فسألت من هذا فقالوا عمران بن الحصين” (11).
وأما بالنسبة للتابعي الجليل المرتحل إلى دمشق أبي إدريس الخُولاني الأزدي فكان “يتخذ مكانه كل يوم بعد صلاة المغرب في مسجد دمشق ، ويحدّث في شيء من العلم لا يقطعه بغيره حتى يقوم أو تُقام الصلاة ، حفظاً لما سمع” (12).
وفي البصرة كان الحسن البصري المرتحل إلى البصرة يتناول في مجلسه بمسجد البصرة شيئاً من ” الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم” (13).
“كما كانت حلقات العلم تعقد في حِمص وحلب والفسطاط .. واليمن، إلى جانب حلقات ينبوع الإسلام في مكة والمدينة” (14).
[1] – سورة التوبة، الآية: 18.
[2] – التربية الإسلامية أصولها وتطورها في البلاد العربية، محمد منير مرسي، عالم الكتب، القاهرة، 1425هـ، ص 283.
[3] – رسالة المسجد عبر التاريخ، أبو بكر القادري، مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض، العدد الثاني، الإصدار من شوال إلى ربيع الأول لسنة 1395هـ 1396ه، الجزء الثاني، ص 503.
[4] – تاريخ الدولة الأموية، عمر بن سليمان العقيلي، الجمعية التاريخية السعودية بجامعة الملك سعود، الرياض 1426هـ، ص161.
[5] – أبو هريرة راوية الإسلام، محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الثالثة، 1402ه،ص44.
[6] – انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي3/338، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، حققه: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 ه، 1/16.
[7] – انظر : سير أعلام النبلاء للذهبي1/476-500 ، و مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 7/162.
[8] – سير أعلام النبلاء للذهبي2/353.
[9] ـــــ سورة العلق، آية : 1.
[10] ـــــ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، 1/256.
[11] ـــــ طبقات ابن سعد، 7/11.
[12] ـــــ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور، 4/96.
[13] ـــــ سير أعلام النبلاء للذهبي4/579
[14] ـــــ ابو هريرة راوية الإسلام، محمد عجاج الخطيب، ص44 .