الرحلات الدعوية ..رحلات من نور

رحلات غيرت مجرى التاريخ

 

إنها الرحلات الدعوية التي كانت على هدى من الله فأضاء الله بها ظلمة الجهل 

اختار الله بعض البقاع لتكون محط الرحال لرجال أضاء الله بهم ظلمة الجهل والتشرذم والتناحر والاقتتال، فصارت الألهة إلها واحد لاشريك له  فوحد الله بين قلوبهم فصاروا بنعمة الله إخوانا يقدر صغيرهم كبيرهم

إنه النور الذي أضاء الله به ظلمة جهل تلك الديار التي مزقتها البدع والخرافات وامتلأ قلوب أصحابها بالتناحر والتشرذم والاقتتال.

نور وحد الله به بين الصفوف وألف بين القلوب فأصبحوا بنعمة الله إخواناً لا فرق بينهم إلا بالتقوى يعبدون الله وحده لاشريك له،  إخوة متحابين،  رحماء فيما بينهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة،  ولم تقف نور هذه الرحلات في الإصلاح بين بني البشر بل تعدى ذلك حتى بلغ الإحسان إلى الشجر والحجر والطير وكل مادب على الأرض فعاش الناس بسلام وجعل الله نور هذه الرحلات يمتد بين أرجاء المعمور ليملؤها عدلا .

 

ما أعظم الأثر التي تركته تلك الرحلات الإيمانية التي ملأت الأرض نورا وعدلا و الرحلة الدعوية لم تكن وليدة عصر من العصور بل إنها السنة التي سنها الله لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام منذ بدء الخليقة ، لقد قص علينا القرآن الكريم من خبر هذه الرحلات وبـــــــين لنا ما كان فيهـــــــا من الدروس، والعــــــــــبر، والأحكام العظيمة، أعظمها تلك الرحلات التي كانت من رسولنا محمدﷺ الذي رحل إلى الطائف يتلمس من يستجيب لدعوته، وكان يخرج في موسم الحج داعياً إلى الله، كما أنه ربى أصحابه (رضي الله عنهم) عليها فقد أرسل الدعاة، وبعث البعوث؛ لأجل دعوة الناس، وتعليمهم أمور دينهم، فبعث معاذ بن جبل وعلي ابن أبي طالب ومصعب بن عمير وأبا موسى الأشعري وغيرهم من فقهاء الصحابة (رضي الله عنهم) دعاةً ومعلمين، وأورد الإمام البخاري قصة وفد بني تميم، وقدوم الأشعريين وأهل اليمن عليه ﷺ، وقصة وفد طىء، وحديث عدي بن حاتم، وكل هؤلاء وفدوا إلى النبي ﷺ فأحسن استقبالهم، وعلّمهم، وبعثهم دعاة إلى أقوامهم، “وبعد وفاته ﷺ اتسعت رقعة الدولة الإسلامية اتساعاً عظيماً تحقيقاً لوعد الله بالتمكين فانتشر الصحابة(رضي الله عنهم) في الآفاق في عصر الخلفاء الراشدين ينشرون دين الله في هذا العصر. الذي يعتبر العصر الذهبي للدولة الإسلامية، فهو عصر تطبيق المبادئ الإسلامية التي جاءت بها شريعة الرسول ﷺ  في المجتمع العربي. ثم في المحيط العالمي … وإذا كان التاريخ قد عرف قوة سائر الفاتحين العظام في القديم والحديث إلا إنه من المؤكد أن أحداً من هؤلاء لم تبلغ فتوحه ما بلغته فتوح الدولة الإسلامية بعد الإسلام” (1)، واستمرت رحلات الصحابة والتابعين(رضي الله عنهم) بعد ذلك في العصر الأموي” الذي يُعد مرحلة لاحقة للعصرين الراشدي والنبوي، ومرحلة سابقة للعصر العباسي والعصور التالية، ففي العصر النبوي تمت قواعد وأركان الإسلام، وأرسيت سننه علماً وعملاً، وأجري عليها بناء الأمة وإقامة المجتمع. وفي العصر الراشدي رُدت الفروع إلى الأصول، ووضحت معالم الاجتهاد، وازدادت شخصية الأمة نمواً ورسوخاً في مجال الفتح والجهاد والاقتصاد والإدارة والحكم والعلم … وأما في العصر الأموي، فشهد توسعاً في مجال الفتح والعلاقات الخارجية، وتعزيز مكانة وقوة الدولة…وهي جهود عظيمة وتنظيمات إذا ما أضيفت إلى ما تم إنجازه في العصرين السابقين يمكن أن يفسّر بها سر استمرار الأمة في الحفاظ على هويتها وشخصيتها وانتماء الأجيال إلى فترة التأسيس” (2).

إن للرحلة منزلة مهمة في تكوين الداعية فهناك ارتباط وثيق بين الرحلة وبين الدعوة بكافة أركانها ولست هنا أشير إلى الرحلة في طلب العلم فهذه أشبعها المحدّثون بحثاً، وإنما القصد في كيف تكون الرحلة مصدراً من مصادر ثراء الدعوة والإفادة منها؟ لقد سطر علماؤنا من خلال الارتحال للدعوة إلى الله تعالى أروع الأمثلة في التحول الذي لم يقتصر على نفوس المدعوين،  ولا على حدود بلدانهم، بل امتدت آثار هذه الدعوات المباركة حتى جعلوا من تلك المدن مراكز علم ونور يرتحل إليها طلاب العلم من كل فج عميق، فاختص ابن عباس (رضي الله عنهم) بمكة، وابن عمر (رضي الله عنهم) بالمدينة، وابن مسعود (رضي الله عنهم) بالكوفة، ومعاذاً (رضي الله عنهم) باليمن، وهكذا حتى أن المدارس الفقهية التي ظهرت بعد ذلك لم تكن إلا أثراً من آثارهم. فنفع الله بهذه الرحلات، وتحقق لها من الفوائد العظيمة ما شهدت به الآثار الكثيرة. “لقد اهتم علماء الحديث بخاصة، وعلماء الشريعة بعامة بالرحلة في طلب الحديث، وطلب العلم…إلا إن الرحلة لنشر الدعوة والعلم سكت عنها أسلافنا ولم يظهروها كما أظهروا الرحلة في طلب العلم…وكأن ذلك كان ادخاراً ادخره الله تعالى لمن يقوم به، أو لعل سبب سكوتهم عن هذا النوع من الرحلات…لتواضعهم” (3)، وعلى هذا تـخصص هذا البحث بدراسة الرحلات والبعوث الدعوية للصحابة  والتابعين(رضي الله عنهم)  منذ مبعث رسولنا ﷺ وحتى نهاية العصر الأموي الذي شهد حياة جيلين فريدين جيل الصحابة (رضي الله عنهم) المتلقي عن النبي ﷺ ، وجيل التابعين (رضي الله عنهم) الذي دخل ضمن خيرية هذا العصر وشهد فتوحات عظيمة ترتب عليها توسع الرحلات والبعوث الدعوية وتشييد المساجد والمدارس الشرعية، وهذا سيكون بتوفيق الله تعالى من خلال تتبع ما كتب في الرحلات والبعوث الدعوية للصحابة والتابعين(رضي الله عنهم) بين مختلف المصادر من كتب التراجم والطبقات والتاريخ والبحوث والمؤلفات. فكل هذا بحاجة إلى تتبع ودراسة لوضع كل معلومة في المكان المناسب ثم تحليل ما يمكن تحليله من هذه المعلومات؛ ليتأتى من ذلك كله إعداد هذه الدراسة ـــ ومن الله التوفيق والسداد.

 

لقد كانت الرحلات الدعوية ومازالت أحد الوسائل الدعوية الهامة التي نفع الله بها بلاد كثيرة،


 1ـــــ الجهود العلميـــــة والتعليمية في عصر الخلفـــــاء الراشدين، منى السالوس، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1425هـ، ص 17 .

2ــــــ    انظر: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، محمد ضيف الله بطانية ، دار الفرقان، عمان ، 1999م، ص 7.

3ــــــ   الرحلة للدعوة ونشر العلم ،صالح رضـــــا، بحث محكـــــم، مجلــــة جامعة أم القـــــرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها (ج15، ع25،شوال 1423هـ).